د. محمد الأسطل يكتب: معاناة أسرى فلسطين

جالست بعض الأسرى الفلسطينيين الذين أفرِج عنهم مؤخرًا فسمعت ما هو ثقيلٌ على أيِّ رجلٍ أن يسمعه.
إنَّ أيام سجنهم -والله الذي لا إله إلا هو- لأيامٌ ثقالٌ ثقال ثقال، وإنها لفوق الوصف والله، وإن الكاتب أنى بلغت فصاحته من الصعب عليه أن يرصد المشاعر كما هي في الواقع عبر ما يُدوِّنه من الأفكار والخواطر.
قال لي أحدهم: لقد كانوا يضربونني بالمِرزَبَّة التي في مقدمتها كتلةٌ من حديد، وإن الضربة كانت تجعلني أصرخ على أعلى ما يكون، ويبقى الجندي يفعل ذلك المرة تلو المرة، ولقد كُسِرت 6 مرات، وفي كل مرة كنت أبقى قعيدًا نحوًا من 25 يومًا، وكنت أفقد الوعي أحيانًا.
قال: ومن العذاب الذي تعرضنا له: أننا كنا نُلزم بالجلوس نفس الجلسة لمدة يمكن أن تصل إلى مائة يوم، يموت فيها المعتقل كل ساعة مرات ومرات، وتبقى الكَلابشات في اليدين وتُضيَّق إلى آخر حد حتى لكأنها أعظم العذاب الذي نعانيه، وكان الواحد منا يدخل بيت الخلاء لقضاء الحاجة وهو مقيد اليدين!
وبعد أن حدثني بهذا وغيره مما لا أنشط الآن لتتبعه قال:
وكان الأشد علينا من هذا كله هو الجوع!
قال: لقد جعنا سنةً كاملةً جوعًا شديدًا شديدًا شديدًا، لقد كان بعض الأسرى يدعون الله أن يُفرَج عنهم لا للخلاص من العذاب؛ ولكن للخلاص من الجوع.
قال: لقد رأيت رجالًا يبكون من الجوع.
وكانت الكلمة الأشد وطأةً على نفسي رغم أني أعرفها ولكن بهجة اللقاء بالمُفرج عنهم أنستني إياها، قال: وقد تركت خلفي أقوامًا جائعين، الجوع، الجوع، الجوع.
وهنا في هذا المنشور العاجل أكتفي بتقرير أمرين:
الأول:
ما تسمعه من الأسرى مما كانوا يتعرضون له على أيدي الكفار المجرمين يُفسِّر لك جانبًا من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بفكاك الأسير عناية فائقة؛ فإنه الذي أوصى بهذا وأمر بقوله كما في الصحيح: (فكوا العاني) أي الأسير.
وبلغ الأمر به أن يسمي أصحابه الأسرى عند قريش في صلاته في دعاء القنوت؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: (اللهم أَنْجِ عياشَ بن أبي ربيعة، اللهم أَنْجِ سلمة بن هشام، اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسني يوسف..”.
وهذا الاهتمام النبوي العظيم عقله الصحابة والفقهاء من بعد ذلك:
فقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لأن أستنقذ رجلًا من المسلمين من أيدي المشركين أحب إليّ من جزيرة العرب) يعني الخراج وفيئهم.
وأما أقوال الفقهاء فهي كثيرةٌ كثيرةٌ أكتفي منها بنقلين:
الأول: يقول الإمام القرطبي رحمه الله: “في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حضٌّ على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلفُ النفوس.
وتخليص الأسارى واجبٌ على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال..، قال مالك: واجبٌ على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم، وهذا لا خلاف فيه؛ لقوله عليه السلام: (فكوا العاني)”.
والثاني: يقول ابن العربي رحمه الله في كتابه: “أحكام القرآن” حين ذكر الأسرى المستضعفين:
“إن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبةٌ بالبدن بألا يبقى منَّا عينٌ تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحدٍ درهم كذلك.
قال مالك وجميع العلماء: فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعُدَّة والعدد والقوة والجَلَد”.
الأمر الثاني: بعيدًا عن إبداء الرأي في معركة طوفان الأقصى وبيان ما لها وما عليها إلا أن إقدام يحيى السنـ.ـوار رحمه الله على قرار الطوفان أحد أهم أسبابه أنه آتٍ من بيئة السجن، يعلم أحوال من فيها، بل عاشها بنفسه وعانى العذاب والعزل قرابة ربع قرنٍ من الزمان.
ولقد كانت معركة الطوفان ثقيلةً علينا ثقلًا عظيمًا، لكنها في النهاية خمسة عشر شهرًا، فكيف بمن عانى 15 سنة! بل إن بعض من أفرج عنهم اليوم زاد عمره في السجن عن 40 سنة، وأحد أبناء المنطقة التي أسكن خرج اليوم وله في السجن 33 سنة!
والأشد من ذلك أن بعض الأسرى زاد عمره في السجن الانفرادي عن 10 سنين، يبقى وحيدًا لا يعلم بأحد ويُجرب عليه من أصناف العذاب ما لا يحيط به أحد.
وهؤلاء الذين يُعذَّبون لم يؤخذوا في سرقةٍ أو قطع طريق لنقول: إنهم يستحقون بما فعلوا؛ بل إنهم فقدوا حريتهم لأجل حريتنا، وفقدوا كرامتهم لأجل كرامتنا.
اللهم يا سميع يا مجيب يا قريب فرِّج عن إخواننا المعتقلين عن قريبٍ قريب قريب.
اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير.