د. محمد المرشدي يكتب: الشعوب المخطوفة.. والمؤامرة الكبرى
«آخر» سَوْءَات النظام العالمي الديمقراطي ظهوراً

وكان مما جَرَفَهُ طوفان الأقصى من الأكاذيب، مَقولة أنَّ أي نظام حُكم ديمقراطي حتماً سيفرز حكومات تُعَبَّر عن شعوبها وتُمَثِّلُها تمام التمثيل، تلك الأكذوبة التي طالما تَغَنّى بها سَدَنة الحضارة الغربية المُهَيّمِنة على مشارق الأرض ومغاربها الآن على أنها السبيل الوحيد لِنظام الحُكم الرَشيد الواجب على الشعوب انتهاجه، وتَبِعَهم في ترويج هذه الأكاذيب علينا غالبية نُخبنا الرَخْوَة المفتونة بالديمقراطية الغربية، وإذا بِنا أمام أحداث غزة الكاشِفة والفاضحة لهذه الأوهام، حيث تابَع العالم كله بالصوت والصورة، ولحظةٍ بِلَحظة حملات الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، فانفجرت المسيرات الغاضبة تجوب عواصم العالم «الحُر» مُنَدِّدةً بهذه الهمجية والبربرية، وتوالت اعتصامات الطلاب الجامعيين في أعرق الجامعات الأمريكية والأوروبية، وانعقدت الجلسات البرلمانية وتبارى النشطاء الأحرار في غالب دول العالم للتنديد بهذه المجازر والمحارق اليومية للشعب الفلسطيني، وكان العَجَب أن حَدَثَ كل هذا في نفس الوقت الذي تقوم فيه حكومات نفس هذه الشعوب بِتَأييد حق الكيان المُحتَل (إسرائيل) في كل ما تفعله! هذا و لم يتوقف دعم هذه الحكومات التي تَدَّعي الديمقراطية للكيان المُحتل لفلسـ طين على تقديم الغطاء السياسي لهذه المجازر البربرية والتي ترفضها شعوبهم، بل شاركت هذه الحكومات «الديمقراطية» المشؤومة إسرائيل في إبادة الفلسطينيين بتقديم الدعم المخابراتي والعسكري وإمداد الكيان الإسرائيلي المُحتَل بالمال والسلاح والغذاء وسائر اللوجيستيات، فكشفت لنا هذه الأحداث عن هذا التناقض الكبير بين إرادة الشعوب ورغباتها في مقابل سلوك حكوماتها التي انتخبتها لِتُعَبِّرَ عن آرائها في مثل هذه القضايا الجوهرية!!!
ولا أراك إلاَّ توافقني بعد كل هذه المشاهدات شبه اليومية لحجم الرفض الشعبي في أغلب بلاد العالم لمحارق المدنيين في غزة إن قُلْت أنَّ هذا التضاد بين الحكومات والشعوب لم يكن مُقْتَصِراً فقط على بلادنا الإسلامية المنكوبة بالحكومات العميلة للغرب كما كُنّا نظن، بل هو مُتَفَشي في سائر أصقاع الأرض، وبات واضحاً ولأوَّل مرة أنَّ الشعوب الغربية والتي يزعمون أنها شعوب حُرَّة هي أيضاً «مخطوفة» مثل شعوبنا سواءً بسواء، وأن حكوماتها لا تُعَبِّرَ عنها كما كانت تحاول نُخَبنا الرَخْوَة المفتونة بالديمقراطية أن تُقْنِعنا بذلك دائماً، بل لا نبالغ إن قلنا أن هذه الحكومات الغربية لا تَدين بالولاء لشعوبها التي انتخبتها في كثير من القضايا كما كُنَّا نَظُن، ولعله قد بان لكل ذي عقل أنَّ هذه الحكومات «المُنتخبة» تدور -طَوْعاً أو كَرهاً- في فلك أوسع كثيراً من أوطانها، تتلاشى فيه آراء ومصالح شعوبها، وأنه يقع في مركز هذا الفلك مجموعة من المُتَنَفِّذين الكبار تُهَيْمِنَ على هذه الحكومات و على الشعوب في آن واحد، وبَدَت هذه الحكومات وكأنها مسلوبة الإرادة، وخاضعة بالكُلِّية لهذه المَنْظومة الحديدية التي تَتَحَكّم في أغلب قراراتِها المَصيرية، وتجبرها على سياسات وقرارات تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالح شعوبها!
والذي حَدَث ببساطة أنَّ «طوفان الأقصى» نَزَع وأسقط هذا القناع الذي كانت تَتَخفى خلفه هذه المنظومة المُتَنَفِذة، والتي تتحكم في مصائر الشعوب والحكومات على السواء، وبات جَلِيّاً للقاصي والداني أنه ليس فقط هناك تباين في المعتقدات والإرادات بين شعوب أغلب البلدان وحكوماتها التي ظَنَّت أنها تُعَبِّرَ عنها، بل هناك أيضاً تَعارض واضح وفَج حتى بين سلوك ومعتقدات نفس أعضاء هذه الحكومات قبل وبعد تَوَلّي مقاليد الحكم في بلادها!
ودعونا نُقَرِّب الصورة أكثر لِتَتضح فكرة المقال، إذ أنَّ نُخبنا الرخوة التي فُتِنَت بالديمقراطية الغربية قد أصابتنا بالضبابية والسطحية فلم نعد نتبين حالنا، وصِرْنا من كثرة وتوالي أكاذيبهم نظنها حقائق لا تقبل المناقشة! ففي حالتنا الآن (أحداث غزة) نرى بوضوح تلك الثُنائِية شديدة التعارض، الطرف الأول فيها شعوب تخرج في مظاهرات غاضبة تعبر عن بقايا من الضمير الإنساني الحيّ الرافض لهذه المحارق والمجازر، ويقابلها قَمع وبطش من حكوماتها التي انتخبتها نفس هذه الشعوب وأَوْصَلَتُها لِسُدَّة الحُكْم، ويا ليت دورها توقف عند هذا الحد بِدَعوى المحافظة على الأمن والانضباط في الشارع «كما يزعمون»، بل بالَغت هذه الحكومات في دعم الكيان الإسرائيلي بالمال، والسلاح، والوقود، لِسَحق نفس الشعب الفلسطيني الذي تَتَفَطّر عليه قلوب الشعوب الحَيَّة من هَوْل ما صنعته فيهم آلة الحرب والدمار التي مَوَّلوها بأموال ضرائبهم!
وهذا المشهد الذي يبدو عَبَثِيّاً للوهلة الأولى يعكس هذه الحقائق التي لم يَعُد هناك شك في وجودها، وأولها أنَّ ماكينة الحضارة الغربية وأدواتها، قد اختطفت إرادة هذه الشعوب لصالح المُتَنَفِّذين في هذه المنظومة العابرة للحدود والقارات، وأن الحُريَّات المزعومة في المُجتَمَع الغربي لها سَقف مُتَدني جداً لا يجاوز دائرة الشهوات والاحتياجات الاستهلاكية (والتي هي بالمناسبة غالب مُخرجات الحضارة الغربية السائدة)، وأنَّ الحكومات المُتسَلِّطة على الشعوب أو المُنتخبة (على السواء) لا تعمل لصالح شعوبها وأوطانها على الدوام، بل مما يتصدر أولوياتها تسكين الشعوب تحت هذا السقف الذي فَرَضَه النظام العالمي الذي تتحكم فيه هذه الطبقة المُتَنَفِذَّة، وأن على الحكومات أن تبتكر من الأدوات والنظم والقوانين ما يمنعون به هذه الشعوب من إدراك هذه الحقيقة، حتى وإن سحقت هذه المنظومة المشؤومة غالبية الشعوب وجعلتهم تائهين بشكل دائم داخل «منظومة التفاهة» التي أَسْكَنوا فيها شعوبهم، بعد أن نجحوا في تحويل الشعوب إلى قُطْعانٍ من المستهلكين، لا هَمَّ لهم إلاَّ شهواتهم وما يستهلكونه من المأكل والمشرب والمَلْبَس وبعض مظاهر الرفاهية، ولعل الكتاب الشهير للفيلسوف الكندي آلان دونو «نظام التفاهة» قد بَيَّن هذا المفهوم بوضوح ودَلَّلَ على تَفَشِّيه في المجتمعات الغربية على وجه الخصوص، فإذا ما حاولت الشعوب الشَبّ عن الطوق، وأرادت أن تَحمل حكوماتها على معارضة هذه السلوكيات الهمجية واللاإنسانية في فلسطين أو غيرها، وجدنا هذه الحكومات التي تَدَّعي «الديمقراطية» تتحول لآلة قمع وبَطش، فتعتقل المعارضين، وتفصل الطلاب والأساتذة من الجامعات، وتُشَوِّه السياسيين، وتقابل التظاهرات بالعُنف المُفرط، وتمنع خروجها بِشتى الطُرُق، وتمنع ظهور الرموز المعارضة لسياستهم في الإعلام، وتحذف المقالات والتدوينات من على كل نوافذ السوشيال ميديا، و تستخدم أبواقها الإعلامية لتزييف الحقائق، وتوجيه الشعوب المُستَغْفَلَة إلى حيث يريدون، فتارة مع الحق إن كان يخدم مصالحهم، وتارة مع الباطل وإن عارض مصالحهم! ولا يقتصر دور هذه الحكومات العميلة على خطف العقول والقلوب بالحيلة والمَكْر، بل ويتمادى دورها النجس لِخَطف إرادة الشعوب بالقهر والبطش، وإطلاق سطوة المال لتزوير الانتخابات، والتأثير على المحافل الدولية، وتعطيل عمل المؤسسات الدولية حتى ولو كانت هذه المؤسسات هي مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية والإنتربول والصليب الأحمر والأُنُروا، بل و تسخير أجهزة مخابراتها لإنفاذ الاغتيالات، وجيوشها النظامية وشركات المُرتزقة لِصناعة الحروب وتحييد الأنظمة المُعارضة بالقوة، وكأنَّها حكومات في دول العالم الثالث (حَسب تصنيفهم)، وبدا النظام الديمقراطي المزعوم كأكذوبة أو بالون فارغ لا يشتمل على أي مبادئ أو قِيَم في مثل هذه القضايا، فالحكم فيها ليس للشعب ولا يخضع لإرادته، ولا يُعَبِّرَ عنه، بل غاية ما في هذا الأمر المَسرَحي التعيس المُسَمى بالديمقراطية، هو أن يتوافق الشعب على اختيار حكومة تُمَثِّلهُ أمام منظومة المصالح العالمية فقط لتحقيق بعض المكاسب المحدودة له، ثم تَنْخَرِط هذه الحكومة طوعاً أو كَرهاً تحت هذه الإرادة الجَمْعِيّة لهذه المنظومة الفَوْقِيَة حتى ولو تعارضت مصالحها مع مصالح شعوبها التي أتت بها لِسُدَّة الحكم! فأصبحنا أمام «شعوب مخطوفة»، وإن بَدَت حُرَّة! وأمام «حكومات عَمِيلَة» وإن بَدَت مُنْتَخَبة! فإن أرادت بعض هذه الحكومات تغيير قواعد هذه اللعبة المشؤومة لتكون لصالح شعوبها وأوطانها على الدوام، خَنَقَتها هذه الطبقة المُتَنَفِذة، وحاصروها مالياً واقتصادياً وجَرّوها جَراً لكل مظاهر الفشل حتى تلعنها شعوبها المُغَفَّلة وتنقلب عليها!
وكما أسلفنا فإنَّ عِمالة هذه الحكومات لصالح منظومة المصالح العالمية ليست مُقتصرة على بلاد المسلمين كما تَوَهَّمنا كثيراً، ولا حتى على دول العالم الثالث، ولكنها تَفَشَّت بين كل حكومات العالم و لم تستثن منها حكومة واحدة، وإن كانت تباينت في درجة العِمالة والخِسَّة، فليست كُلّها في نفس الدرجة من الانحطاط، فَعِمالة ترامب (حاكم أمريكا) ليست كَعِمالة حاكم فرنسا أو أوكرانيا أو إسرائيل أو حتى السعودية والإمارات ومصر وقَطَر، و…. و…..، فكما أن هناك تفاوت فيما يجنيه الشعب الأمريكي من الرفاهية عما يجنيه الشعب الفرنسي أو حتى السعودي، فكذلك سَتَتَفاوت أدوار هذه الحكومات العميلة لِصالح طبقة المُتَنَفِّذين، فهذا سَيُقَدِّم السلاح وهذا سَيُقَدِّم التكنولوجيا والمعلومات، وهذا سَيُقَدِّم أرض بلاده رخيصة لتكون مسرحاً للعمليات، وهذا سَيُقَدِّم دماء شعبه في حروب بالوكالة لِتَكون قُرْباناً لهذه الحروب الشيطانية، وهذا سَيَسلَخ شعبه من عقيدته ودينه لِيُوافق منظومة الحضارة الغربية التي لا تكترث بالأديان ولا بالقِيَم، وهذا سَيُقَدِّم البترول والغاز، وهذا سَيَقوم بتخدير أو توجيه الشعوب بآلته الإعلامية الجُهَنَّمية، وهذا.. وهذا.. بل هناك منهم مَن سيفعل بعض أو كل هذا وذاك معاً، في منظومة مُحكَمَة تَصُبُّ عائداتها لصالح شبكة مُتَنَفِذَّة تدير المشهد بسيطرة كاملة! وفي سبيل تحقيق ذلك عَبَثت طبقة المتنفذين العالمية بعقائد وسلوكيات الشعوب، فتم فَرْض الشذوذ والإباحية، والقمار، والكحول والدخان والدعارة من قِبَل هذه اللوبيات بِدَعوى الحريات المزعومة! ولعله بات من نافلة القول أنَّ هذه العِمالة فَرَضت على الحُكَّام أن يُمارِسوا وِصاية كاملة على الشعوب، فتجدهم يَحجِرون على إرادة الشعوب التي انتخبتهم وأعطتهم هذه السُلْطة في مشهد هزلي من مشاهد هذه الديمقراطية المزعومة، تَبَدَّل فيه عقد الوكالة بين الحُكَّام والشعوب، فبعد أن أعطتهم الشعوب الأهلية ووَكَّلَتهم نيابة عنها لِحُكْمِ البلاد، صارت نفس هذه الشعوب لا أهلية لها للنظر في مصالحها، أو إنفاذ إرادتها، وعليها أن تـنقاد لِلْحُكَّام طَوْعاً أو كَرهاً ولو خالفوا إرادتها!!!!
ولا تَخْدَعَنَّك مظاهر الرفاهية والتطور التكنولوجي التي تعيشها الشعوب الغربية تحت حكم هذه الحكومات العميلة لصالح منظومة المُتَنَفِّذين العالميين، فقد تم هندسة مسارات النظام العالمي الحالي بشكل يجعل عائدات هذه الحضارة تَصُبُّ أولاً عند طبقة المُتَنَفِذين، فما تبقى فَلِلْدول الحاضنة لهذه الطبقة، ثُم يليهم طبقة الحُكَّام العُملاء وأتباعهم في كل بلد، ثم يُلْقون بالفتات لِباقي شعوب الأرض مع بعض التمييز (حيث ستتأخر البلاد الإسلامية عن غيرها)، وليس هذا التوزيع يعكس حتى مساهمة كل طبقة من هذه الطبقات في منتوجات هذه الحضارة، وإن أنصفت فقل هذه المؤامرة، بل تخضع هذه القِسمة الضيزى لآليات أخْرى يطول شرحها هنا، وهذه الرفاهية وهذا التطور لهما وجه آخر تعيس يَتَمَثَّل في سحق و استغلال شعوب أخرى على الكوكب، الذين انحصر كل دورهم في كونهم مصادر للمواد الخام من جهة، ومن جهة أخرى هم يمثلون السوق الاستهلاكي العريض الذي يحافظ على دوام دوران ماكينة هذه الحضارة المشؤومة، كل ذلك فضلاً عن تسطيح واستغلال السواد الأعظم داخل نفس هذه الشعوب لصالح النظام العالمي بكل سلبياته قبل إيجابياته!
وقبل أن أختم المقالة فلا يسبقنك الفهم أنَّ المقصود من مصطلح «الشعوب المَخطوفة» هو «حُكم الأقلية» بمعناه الذي تعكسه الأدبيات السياسية، ولا حتى «الحكم العسكري» أو «الجَبري»، فقد تشاركت كل هذه الأشكال من منظومات الحُكم مع «حُكم الأغلبية» المزعوم في تهميش وعدم اعتبار آراء الشعوب إذا عارضت مصالح طبقة المُتَنَفِذين العالمية!!!
وتبقى أسئلة
لصالح من تعمل الحكومات؟ أو من هم المتنفِذون الذي يسيطرون على النظام العالمي؟ وهل هناك من سبيل لِفَك أسْرِ الشعوب المخطوفة؟
ولعل المقالة القادمة تُسَلِّط الضوء أكثر على هذه الإشكاليات..