د. محمد جلال القصاص يكتب: الدرس يتكرر والأقباط لا يفهمون

في المشهد المصري، وفيما يتعلق بالأقباط تحديدًا، درس يتكرر من حينٍ لحين؛ وفي كل مرة يعطي مفهومًا واحدًا هو: أن الواقع القبطي بعيد تمامًا عن الصورة الذهنية التي رُسِمت في خيالهم، كما يبدو لي.
كان الدرس الأول حين استقوى الأقباط بالغرب، واختاروا الغزو الفكري للإسلام، وأقبلوا على الدين ومقام سيد المرسلين من كل حدبٍ وصوبٍ.. كالجراد المنتشر: قنوات فضائية، ومواقع إلكترونية، وكتب، ومحاضرات؛ قساوسة، وناشطون.. ذكور وإناث؛ وجلهم يتحدث بلغة شديدة الانحطاط عن الشريعة الإسلامية وسيد البشرية- صلى الله عليه وسلم-، (ويشتهر هنا زكريا بطرس، ومرقص عزيز، وبعض أقباط المهج)!!
وصدَّق الأقباط أنفسهم!!
ظنوا أن بإمكانهم تنصير مصر، وبدأ الحديث بالفعل عن أن العابرين (المتنصرين) بالملايين.. ظهر الكذاب اللئيم زكريا بطرس في CNN يدَّعي أن مليونَ إنسانٍ تنصروا في مصر وخمسة عشر مليونًا يخفون كفرهم، وأنها أيام فقط وترتد مصر بأكملها!!
ولم يكد الزمان يمضي حتى رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا. فبقليل من الجهد.. ومن غير المختصين تم دحر هؤلاء. بل انقلب السحر على الساحر، فأشرق الإسلام من بيوتهم هم، ولم يستطيعوا إطفاء نور الله بأفواههم وأموالهم، ويعرف الجميع قصة «وفاء قسطنطين» و«كاميليا شحاته» وأخريات من دونهم لم يشتهر أمرهم. وإن اللجنة الرسمية المختصة بقبول المسلمين الجدد لا تكاد تغلق بابها من كثرة الوافدين عليها.. مع حالة الاستضعاف التي يعيشها المسلمون، ومع قلة، بلا انعدام، النصير لمن يُسلم، وما ذاك إلا تأثرًا بالخطاب المضاد لهذه الحملة شديدة البذاءة.
وأدى الاستقواء بالغرب إلى انتشار المذهب البروتستانتي بينهم.. أو بالأحرى تأثروا تأثرًا كبيرًا بالبروتستانتية، وخاصة أقباط المهجر، حتى أن المحققين منهم يرون أنهم انحرفوا كليةً عن دينهم (الأرثوذكسية التي تعتمد على فهم الآباء الأولين لا على فهم المعاصرين)، ومن أراد تفصيلًا في هذا فليرجع لأطروحات الدكتور «جورج حبيب بيباوي»، وهي متوفرة في موقع خاص باسمه على الشبكة، في هيئة كتب ومقالات، ومحاضرات.
وفي هذا السياق (التشكيك في عقيدة الموجودين) بدأ النبش عن كتابات الأب «متى المسكين1919-2006».
والمقصود أنهم لم يستطيعوا شيئًا.. لم يبرحوا مكانهم، مع الوفرة التي توفرت لهم في الداخل ومن الخارج.
المقصود: أن الأحداث أظهرت حجمهم الحقيقي في الساحة الفكرية.. بينت الفرق الشاسع بين الخيال الذي يتحدث به بطرس ومرقص والواقع الذي يعيشه الفرد العادي.
ولم يفهم الأقباط الدرس!!
وبين ركام الأيام حادث له دلالة شديدة الوضوح على ما أقول، وهو حادث «كنيسة العمرانية» 2010م. حاولوا بناء كنيسة رغمًا عن الدولة، وتم استدعاء أعداد غفيرة من شبابهم، وأصروا على البناء.. واستأنسوا من أنفسهم قوة فاصطفوا صفوفًا وهاجموا- هم- الأمن المركزي الذي كان يقف بعيدًا عنهم. وما هي إلا دقائق معدودة ممن حضر من عساكر الأمن المركزي.. فقط دقائق كانت كافية للسيطرة عليهم وحشرهم في عربات الترحيل، وبدا البكاء من أجل الإفراج عنهم!!
كان اختبارًا قويًا لبالونة القوة المزعومة.. انتقالًا من الوهم للحقيقة.
ذات الدرس يتلى عليهم مرة أخرى: الوهم الذي في صدورهم شيء والواقع شيء آخر. ولكن الأقباط لا يفقهون!!
وفي حادث تعدي العجوز المتصابي القذر على الطفل في مدرسة الكرمة للغات بإدارة دمنهور التعليمية 2025، شاهد آخر: وفرة من الأدوات الإدارية، والمالية؛ والانتشار السهل في مجال التعليم بما يشاءون دون منافس لهم؛ وحين انكشف أمرهم للعلن.. حين اجتمع الناس حولهم لم يستطيعوا شيئًا.. خنسوا.. وفي هذه المرة خبت الصوت المستغيث بالخارج عن كل مرة.. وخبت الصوت القادم من الخارج عن كل مرة. ربما لأن الدولة غير الدولة التي كانت.
وهنا ملاحظة مهمة في هذا الحدث: الخطأ خطأ أفراد.. ارتكبوا جريمتهم كأفراد (عجوز متصابي.. تواطؤوا معه لطبيعة عمله [مراقب مالي])، ولم يرتكبوه باسم الكنيسة.. لم يرتكبوا جريمتهم بدافع انتقامي، ولكنهم حين حوسيبوا تدرعوا بالكنيسة.. بمجتمع الكنيسة.. بنفوذ الكنيسة وبمن يساند الكنيسة في الخارج وكأنهم حين فعلوا ما فعلوا مطمئنين لهذه الشبكة من العلاقات المتنفذة؛ ولكن هذا التمدد في أبنية المجتمع ونخبته لم يصمد حين واجهوا عامة الناس علانية.. ظهر حجمهم الحقيقي!!
عادت الأحداث تتلوا على القوم من جديد ذات الدرس.. عادت تصرخ فيهم: إن الواقع أقل بكثير من الحقيقة، ولكن الأقباط لا يفقهون!!
وإلى نصارى مصر!
الدولة الحديثة- في مصر وخارج مصر- لا تتكئ على الدين، ولا تستمد شرعيتها من المتدينين- أيًا كانوا-، تحافظ عليهم كحالة من الضرورات الاجتماعية.. وفي سياق اجتماعي لا سلطوي، ومن يحاول القفز من المساحة الاجتماعية إلى السلطة تقمعه حتى يرجع ثانية؛ وتتقرب إليهم في أوقات الأزمات.. تمرر بهم أزماتها، [شرحت هذا في مقال مستقل بعنوان: «من يثور ولصالح من؟»]
وكذلك القوى الكبرى تستخدم حركات التدين الطامحة في تفاعلاتها الدولية؛ ومن ذلك تفعيل الأقليات وتمكينهم في الدول الصغيرة، ومن ذلك- أيضًا- مساندة حملة «التنصير العالمي» التي بدأت في منتصف ستينات القرن الماضي؛ ولم تفلح في تنصير أحد، ولم يكن يراد منها أكثر من إثارة الشغب بين المتدينين، لم يكن يراد منهم أكثر من هلهلة التدين في نفوس الناس وواقعهم، وهو ما كان: أزاحت الناس من التدين إلى الإلحاد.
فعلى كل من يبحث عن صراعٍ بين أبناء الوطن الواحد مستقويًا بالخارج أن ينصت جيدًا لهذا الدرس الذي يتكرر مع كل حدث.. عليه أن يفهم أن الأقليات.. أن المتدينين موظفون في سياق استباحة الغرب للدول الصغيرة!!
د. محمد جلال القصاص
3/5/2025
ذو القعدة 1446