مقالات

د. محمد جلال القصاص يكتب: بوتين والنظام العالمي الجديد؟

هل تنجح روسيا في بناء نظام عالمي جديد؟

منذ عقدين- تقريبًا- وروسيا تطالب بنظام عالمي جديد!

 تطالب بأن تتخلى الولايات المتحدة عن هيمنتها.. أن تتقاسم النفوذ العالمي مع بقية الدول الكبرى!

طالبت بهذا عدة مرات. وصاح في نواحيها بعضهم مرددًا أن هذه المطالبة من مظاهر الشجاعة النادرة عند «بوتين»!!

والحقيقة أن الملك يُنزع ولا يمنح (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)!!

والحقيقة أن الواقع يُبنى رويدًا رويدًا.. أو بالأحرى: الواقع الجديد يَفرض نفسه على واقعٍ قائم يَرفضه ويقاومه.. فالحياة تدافع كما أخبرنا العليم الخبير، سبحانـه (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).

والحقيقة أن الواقع يُبنى في أجيال وليس جيلًا واحدًا، حتى النموذج الأول (البعثة المحمدية) وهو الأسرع والأكثر ثباتًا (استمرارًا) في التاريخ كله استهلك جهد أجيال، فهذا النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ والخلفاء الراشدون ومن دان للإسلام من العرب والعجم؛ ثم التابعون ومن تبعهم إلى عصور التدوين!!

وفي المشهد الروسي.. هذا الذي يطالب بلسانه بنظام عالمي جديد التالي:

روسيا دولة بلا عمق مؤسساتي. بمعنى ليس بها وفرة من النخبة المتخصصة التي تدير أبنية متخصصة فاعلة في شتى مجالات الحياة، كما الولايات المتحدة والصين.

وشخص بوتين «تكتيكي» وليس استراتيجيًا ولا سياسيًا.. وقد علق في معركة كان ينتظر أن تنتهي في أيام معدودة ولم ينقذه إلا ترامب، ولو أنهم سلحوا الكوميديان بأسلحة هجومية لربما احتل موسكو.

وشخص بوتين «أمني» يُنفق على السيطرة والنفوذ (داخل روسيا وخارجها)، ولا ينفق على اقتصاد داعم كما تركيا والصين مثلًا.

تراجع إمكانات الدولة الروسية

وعمليًا تتراجع إمكانات الدولة، ولصالح الخصوم، فقد خرج من سوريا (أو قلَّ نفوذه فيها)، وخروجه من سوريا يعني: فقدان موطئ قدم فاعل في المياه الدافئة، ويعني فقدان القدرة على التحرش بخطوط الغاز المنافسة.. القادمة من الخليج [إيران، وقطر]، وفقدان حصة من غاز المتوسط، وفقدان الضغط على أوروبا من الجنوب.. عن طريق الغاز والتجارة مستقبلًا.

و-أيضًا- انشغاله بالحرب جعله يتنازل عن النفوذ في وسط أسيا (حديقته الخلفية، وعمقه الثقافي، وإرثه من الاتحاد السوفيتي) لصالح الصين، فقد تمددت الصين في وسط أسيا واستقرت، ولم يعد بإمكان بوتين ولا من يخلفه إخراجهم منها.

و-أيضًا- تمدد الأتراك، وهم العدو التاريخي للروس، في سوريا (امتلاك جغرافيا ذات إمكانات داعمة للأتراك ومناوئة للروس)، وقريبًا شمال العراق.

وإن حقق نصرًا في الحرب فإنه لا يملك القدرة على الإفادة مما في أوكرانيا من “خير”.. لتخلفه تقنيًا، وإلا ففي روسيا نفسها وفرة من المعادن والبترول والغاز والخبرة العلمية

ولكنها لا تستطيع الإفادة مما في يديها، وقد ابتزهم الأمريكان قديمًا بتكنولوجيا استخراج البترول من الأماكن الباردة (سيبيريا).

فبعد أن يسيطر على أماكن في أوكرانيا سيقف كدكر البط منتفشًا يصيح فيمن حوله لإثبات ذاته وليس عنده أكثر من هذا..

اللهم أن يزرع الأرض وينتج القمح كما الفلاحين في أوكرانيا والريف الأوروبي، أو يستخرج الذهب الخام ويبيعه خامًا كما تجار الإبل في أحراش السودان، وهذه حرفه تغني أفراد وعصابات ولا تقيم دولًا.

والصين ليست حليفًا لروسيا..

ليس بينهم معاهدات ثنائية.. ولا تفاهمات أمنية. بل سياق من العداء التاريخي يتقلب من وقتٍ لآخر!!

وبعض المحللين ينقل تصريحات لمسئولين من المستوى الثالث أو الرابع في الحزب الحاكم فيها أن مصلحة الصين مع روسيا، ثم يستدل بها- جهلًا- بأن من يقاتل روسيا كأنما يقاتل الصين!!

وروسيا تقاتل من سنين فهل دخلت الصين معها الحرب؟!!

وهل تصريحات المستوى المنخفض- في المسئولية الحزبية- تعبر عن توجهات الحزب؟!!

ولو أن هذا “المحلل” يحاول فهم المشهد كما هو.. لا أنه يحاول بث رغائبه لعَلِمَ أن زعيم الحزب ورئيس الدولة (شي جين) لم يذكر الحرب الأوكرانية في خطابه (أعني الخطاب الأخير تحديدًا) مع سخونة الأحداث وشيوعها وخاصة بعد المشادة التي حدثت بين ترامب وزيلينسكي؛ وفي هذا إشارة شديدة الوضوح إلى أنه ليس طرفًا ولا داعمًا لطرف فيها!!

المشهد الصيني- الروسي

وحين سئل بوتين عن حجم الدور الروسي في التفاعلات الدولية وخاصة بين الولايات المتحدة والصين رد بأن روسيا أقامت علاقات قوية مع الصين ثم ذكر حجم التبادل التجاري (228 مليار دولار) والعلاقة في هذا السياق لا تقاس بالتبادل التجاري، والذي هو مواد خام من روسيا بالأساس بمعنى أنه- إن اعتبرناه مؤشرًا- أمارة ضعف أخرى، وإنما تقاس بالتحالفات الأمنية والتكنولوجية بالأساس.

وأهم ما في المشهد الصيني- الروسي أن الصين لا تبحث عن تحالفات وإنما تبحث -بوضوح تام- عن تمدد جغرافي بحثًا عن الموارد (الطاقة والعناصر النادرة اللازمة للتكنولوجيا الحديثة) والأسواق، وعند روسيا كثير مما ينقص الصينيين،

وخاصة في الجزء الشرقي من روسيا، وهو مساحة تكاد تكون خلية من السكان، وعلى سبيل المثال: المياه العذبة (بحيرة بايكال) والبترول والغاز والعناصر النادرة.

وعند الصين التكنولوجيا والكثافة العددية والحاجة الشديدة التي تدفعهم إلى قضم هذا الجزء من روسيا بغشومية (احتلال) أو بنعومة هذا العصر النكد (الاستثمار طويل المدى).

أما ما انتفش في خيال بعضنا من أن “الصين وروسيا إيد واحدة” فهذا محض خيال!!

تصب خيالك على المشهد ليكون كما تريد لا كما هو!!

تتحرك في نواحيها بحثًا عن موقف أو موقفين تؤيد بهما رغائبك!!

دعم صيني محدود

نعم الصين تقدم دعمًا لروسيا.. ولكنه دعم محدود هدفه الرئيسي إبقاء الروس في الصراع مع أوكرانيا ومَن خلفها، حتى تنهك هي ومن تصارعه (أوروبا تحديدًا)، وإبقاء شيء من المودة حتى لا تثور روسيا- إن كانت تقدر على الثورة الآن- وتعيق التمدد الصيني في وسط أسيا (دول الاتحاد السوفيتي سابقًا)؛ وقريبًا سيعود الحديث عن أحقية الصين في بعض المناطق الروسية.. قريبًا سيتحدث «شي جين» في العلن بذات الحديث الذي تحدث به «ماو» في السر ثم اعتذر حين أشيع.. سيتحدث بأن روسيا تحتل مناطق صينية ويطالب بها ثم يزحف لأخذها!!

انتهت روسيا كقوة إقليمية. أنهكتها الحروب. والصين في ظهرها موفورة المال والرجال وأدوات الفعل؛ وتتحدث عن إحن تاريخية، وحقوق مسلوبة، وتدور عيناها على ما عند الروس من موارد مائية وغير مائية، ولن تعط الروسَ فرصةً لإعادة البناء من جديد!!

د. محمد جلال القصاص

دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى