بحوث ودراسات

د. محمد جلال القصاص يكتب: جني ثمار الحرب الباردة: الرؤية والأدوات

بعد الحروب الكبرى يُعاد تشكيل الغالب ويُعاد تشكيل المغلوب!!

 كلاهما يعاد هيكلته من جديد!!

المغلوب ينكمش ويضعف ويدخل في نمطٍ جديد من الفعل السلطوي والاجتماعي، فغالبًا ما يعاد هيكلة السلطة والنخبة ومؤسسات المجتمع، ومن ثم يُفرض على الناس أنماط جديدة من الفعل الاجتماعي من قِبل السلطة المهزومة ذاتها أو من قِبل المنتصرين.

والمنتصر يجني ثمار انتصاره وذلك بإعادة تشكيل نفسه من جديد. فبعد الانتصار يزداد قوة فيتمدد نفوذه (الحدود الافتراضية)، ويتمدد جغرافيًا بضم أراضٍ من المغلوب إليه، أو دخول آخرين معه في أحلاف.

وهذا ما حدث بعد الحربين الأولى والثانية. فبعد هزيمة الإمبراطوريات في الحرب العالمية الأولى، أعاد الغالبُ هيكلة السلطة (نظام الحكم) والنخبة ومؤسسات المجتمع ونمط الفعل الاجتماعي لدى المغلوب!

أنهى الغالبُ نموذج الحكم القديم (الملكية/ الحكم الوراثي)، وأجبر النخبة على إعادة هيكلة نفسها من جديد. وإنَّ النخبة في كل مجتمعٍ تتكيف مع الجديد وإنْ حدث تغير ففي طبيعة الشخص [يعدّل وضعه حسب التغيرات التي حدثت بعد الحرب] أو يذهب شخص ويأتي شخص آخر من ذات الطبقة، أما الطبقة فتبقى كما هي في الغالب، وذلك أن خيار الناس قبل الحرب هم خيار الناس بعده، وفي الحديث: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ، خِيارُهُمْ في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ في الإسْلامِ، إذا فقِهُوا». بمعنى أن المنتصر ينتج نخبة مجتمعية توافقه وتساعده في إعادة هيكلة المؤسسات والمجتمع ومن ثم إدارتهما وبناء هوية مجتمعية جديدة تتوافق معه.

 وكذلك فَرَضَ المنتصرون في الحربين نموذجهم المعرفي (عقيدتهم) على الجغرافيا فقسموا العالم لأجزاء صغيرة سميت دولًا، وبدأ تفتيت الإمبراطوريات تحت مسمى برّاق وهو «الاستقلال». أو بدأت مرحلة جديدة من الهيمنة والسيطرة تحت نموذج حكم عالمي جديد هو «نموذج الدولة القومية الحديثة». وكان هذا الشكل الجديد للجغرافيا (الدول المستقلة) هو أحد أهم أدوات المنتصرين في الحرب لفرض عقيدتهم على غيرهم، فكما يذكر الدكتور المسيري: جُعلت الدولة الصغيرة الناشئة هذه هي القيمة المطلقة، أو المرجعية النهائية، والركيزة الأساسية للمجتمع، ومصدر تماسكه الوحيد، فأصبحت الدولة هي المقدس، وأصبحت مصلحة الدولة هي الإطار المرجعي لمنظومة القيم، والإطار الذي يعبر الشعب من خلاله عن ذاته. بل وأعيد قراءة التاريخ ضمن إطار الدولة الحديثة وكأنها كانت حاضرة منذ كان الإنسان على وجه البسيطة [الصهيونية والحضارة الغربية ص43]. وانحصرت مهمة السلطة الحديثة.. سلطة الدولة القومية في بناء هوية جديدة على الجغرافيا الحديثة.. جغرافيا «الدولة».

نعم تفتت المنهزمون إلى كيانات صغيرة ضعيفة وتزداد تفتتًا يومًا بعد يوم، وتحول المنتصرون إلى كيانات كبيرة (ولايات متحدة) (اتحاد السوفيت)، وأحلاف عسكرية كبيرة مكونة من عدة دول هامة (الناتو، وارسو)، وتكتلات اقتصادية وسياسية وثقافية. والمحصلة أن بدأت أنماط جديدة من التفاعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري تتوافق مع هوية الغالب، ودخل فيها المغلوب بعد أن فُرضت عليه بالقوة، وشيئًا فشيئًا نسي المغلوب ما كان عليه وبدأ يُنافس الغالب المحتل في هويته.. شيئًا فشيئا بدأ المغلوب يتعصب للجديد الذي كان ينكره ويحاربه من قبل.. دخل المغلوب في دين الغالب بدعوى أنه مقتنع ومحب لدين الغالب وبدعوى أنه يبحث عن أسباب القوة والنفوذ ليسترد ما أخذ منه!!

 وبعد انتهاء «الحرب الباردة» حدثت الهزيمة للاتحاد السوفيتي بدون حرب عسكرية مباشرة… حدثت الهزيمة دون أن يقف المنتصر على رأس المهزوم ويملي عليه ما يريد كي يتوقف عن القتل والتخريب. وهنا حدثت معضلة، وهي: كيف يجني الغالب ثمار الحرب التي غَلب فيها في هذه الحالة النادرة من الانتصار؟

 تحللت الكتلة الشرقية (المغلوبة) من تلقاء نفسها.. أو بالفساد الداخلي والضغط الخارجي، وأعيد تشكيلها، وراح الغالب في الحرب الباردة (الكتلة الغربية الليبرالية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة) يبحث عن وسيلة يجني بها ثمار انتصاره، فتم ابتداع مبدأ «التدخل الإنساني» والذي يقضي بالتدخل في شئون الدول من أجل «الدفاع» عن «حقوق الإنسان». واستخدموا هذه الحيلة (التدخل الإنساني) من أجل مزيدٍ من النفوذ بداخل الدول وخاصة التي كانت ضمن الكتلة الشرقية المغلوبة في الحرب الباردة.. ومن أجل إعادة صياغة الجغرافيا ونظام الحكم والنخبة ومؤسسات المجتمع في تلك الدول، وكانت أول خطواتهم في أوروبا الشرقية الموالية للاتحاد السوفيتي فكان أن فككوا الكيانات الكبيرة (يوغسلافيا) وغيروا نظم الحكم لتكون على ما هم عليه، واضطروا الأوربيين إلى «دايتون الثانية» كما اضطروهم من قبل إلى «دايتون الأولى» بعد الحرب العالمية الثانية. واستخدمت هذه البدعة (التدخل الإنساني) وسيلة من أجل تحقيق مزيد من السيطرة والنفوذ في اتجاه الشرق حيث كان المغلوب وأولياء المغلوب…!!

وفي الجانب الثقافي فرض الغالب رؤيته على المغلوب، وظهرت هذه التغيرات في انتشار ثقافة الفرد (ما يتعلق بمفردات حياته في مأكله ومشربه وملبسه، وما يسمع ويشاهد، وما يقرأ، ونحو ذلك)، ورويدًا رويدًا أصبح النموذج الثقافي الغربي هو النموذج السائد ويزداد تمكنًا يومًا بعد يوم.. يحاولون فرض نموذجهم كله على غيرهم مهما كانت الفجوة بين ثقافتهم وثقافة غيرهم، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك إصرارهم على أن يختفي التدين من المجال العام وينتشر اللواط والزنا بدعوى «الحرية الإنسانية»، وأن يتم التعامل على البعد الإنساني لا على البعد الديني، وأن يجتمع الناس على دينهم هم.. دين الإنسانية لا على ما أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب!!

فما يحدث الآن هو دمج للجميع في النموذج الغربي بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.. وهذا ما يسمونه بـ «نهاية التاريخ».. كأن البشرية تطورت ثم استقرت في نموذجهم الذي يزعمون أنه أفضل نموذج للحكم (نموذج المنتصر.. صاحب القوة. وإن القوة لله جميعًا. وإن العزّة لله جميعًا).

والأهم في المشهد ليس الرؤية فقط (دمج العالم كله في النموذج الغربي)، وإنما مهم أيضًا أن نرقب أدوات الفعل، والاستراتيجيات المتبعة في التنفيذ، ثم: كيفية التنفيذ.

وهذه أهم الملاحظات بما يناسب مقال:

أدوات الفعل:

لم تعد الحرب بالسلاح هي أداة الفعل الوحيدة للتغيير، وإن كانت لا تزال أداةً رئيسية وحاسمة، ومرحلة لابد منها في كل تغيير. دخلت أدوات أخرى.. أصبح القوي يفرض إرادته على الضعيف بأدوات شتى، منها: العولمة، أو توحيد العالم تحت قواعد قانونية ملزمة للجميع (قواعد عرفية.. أو إيجاد عرف دولي في جميع المجالات، هذا العرف منبثق من قِيَمهم هم.. مما يفرضونه في الاتفاقيات الدولية.. ثم يحولونه إلى قواعد عرفية ملزمة للجميع) من خلال الاتفاقيات الدولية (مصدر التشريع الدولي الرئيس) والتي دخل فيها الجميع تقريبًا، وهذا السياق يتطور ويتوحش وكاد أن يشمل جميع مناحي الحياة.

ومن أهم الأدوات:

نشر الفوضى (التخريب). أو إيجاد مناطق بلا سلطة مركزية فاعلة (مناطق يسود فيها التوحش) كما حدث ويحدث في أفغانستان، والعراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، والسودان، وغيرهم…. ويستخدمون تخريب الموجود وإشاعة الفوضى فيه من أجل إعادة هيكلة (بناء) المجتمع مرة ثانية على قواعدهم هم. ويتم «البناء» بشركاتهم ونخبتهم وقوانينهم وثقافتهم.

ويتم صناعة (الفوضى) بأدوات محلية في الغالب، مثل: حركات الاحتجاج الشعبي، و«الثورات»، والجماعات الإسلامية، وخاصة المسلحة منها، حيث يرحب هؤلاء بالفوضى ظنًا منهم أن البدء من مجتمع بلا سلطة مركزية (التوحش) هو الخيار الأفضل، وذلك أن الحركات المسلحة تم اجهاضها في كل مكان من خلال النظم المحلية المستقرة، حتى في الصومال تم إسقاطهم من خلال النظم المجاورة (كينيا وأوغندا)، ولذا تخيلوا أن نقطة البدء من الفوضى (التوحش) حيث لا نظام. ولهم تنظير في هذا تحت مسمى «إدارة التوحش» [ينظر للكاتب: «صناعة الفوضى بين الجهاديين والأمريكان» و«ثورة.. تاني؟!»].

ومهم هنا أن نرصد أن كل منظومة عقدية تفرز أدوات خاصة بها في مستوى المؤسسات (سلطوية واجتماعية)، وفي مستوى النخبة التي تدير هذه المؤسسات. وكلما استقرت المنظومة كلما كثرت أدوات الفعل وتطورت. فمع الإسلام ظهر المسجد، وبيت المال، والأوقاف، وأهل الحل والعقد، وأهل المروءات (الغارمين)، وتم تمكين الناس من الموارد ومِن فعل ما يرونه صالحًا لعمران الأرض وتحقيق المصلحة الدينية والدنيوية للناس، فمن أحيا أرضًا أو أخرج كنزًا، وفقًا للضوابط التي وضعها فقهاء الأمة في عصور التمكين فهي له، وأعفت الشريعة الأفراد من الحصول على موافقات للدولة.. أو نزعت تسلط الدولة على الأفراد، وتبرأ الإسلام من براءة الاختراع، كما يذكر الدكتور جميل أكبر في كتبه الثلاثة «قص الحق» و«عمار الأرض في الإسلام»، «براءة الإسلام من براءة الاختراع: ديمقراطية أم تمكين؟».

ومع العلمانية ظهر ما تراه بين عينيك من مؤسسات ونخبة في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي (فن، ورواية…إلخ).

 القوي يوظف الضعيف ويفيد منه شاء أم أبى. بمعنى أن الضعيف يدخل في القوي ويصبح أحد أدواته وخاصة حين يكون هذا الضعيف بلا رؤية سياسية أو استراتيجية؛ وهذا بين في عامة ما نشاهد من تفاصيل، فعلى مستوى الحركات الإسلامية استخدمت الحركات المسلحة من قبل الولايات المتحدة كأحد وسائل التصدي للاتحاد السوفيتي، وكأداة ضغط وإفشال للأوربيين حين أرادوا حل مشاكلهم (البوسنة والهرسك) بمعزل عن الولايات المتحدة. وقبل ذلك: استخدمت حركات المقاومة ضد المحتل الغربي في تفتيت العالم الإسلامي إلى كيانات صغيرة (دول)، واستخدمت الحدود الجغرافية المصطنعة بين الدول الناشئة في تأجيج الصراع لإنهاك الدول الناشئة بالخلافات والصراعات المسلحة بينها، والتدخل بدعوى تحقيق «الأمن الإنساني»، ثم لا يكون إلا نهب الموارد وفرض إرادة الكتلة الغربية المنتصرة في الحرب الباردة.

د. محمد جلال القصاص

شعبان 1436/ يونيو 2015

إعادة صياغة شوال 1444هـ/ مايو2023

د. محمد جلال القصاص

دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى