مقالات

د. محمد جلال القصاص يكتب: لا تغشوا الفقراء والمحتاجين!!

بعد أن كثرت الأمراض في الأبدان واثَّاقلت إلى الأرض.. من المرض ونفقات المرض. تنادى الصالحون المصلحون والمغرضون الباحثون عن ذواتهم إلى خدمة الناس. وكل يدَّعي الصلاح والإصلاح… كلٌ عند نفسه صالحٌ مصلح. ولكن: صلاح النية لا يكفي لتصويب الفعل ومن ثم تمريره، فمن قبل ادعى قوم الإيمان والصلاح وكُذِّبوا، يقول الله تعالى ذكره: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ} (البقرة:8)، ويقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11، 12)، ويقول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (النساء: 62)؛ ومن قبل اتهم فرعونُ موسى -عليه السلام- بالفساد: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر : 26)!!.

أين مصلحة الناس؟

في أن نعالج أصحاب الأمراض المزمنة؟

 في أن نقف بجوار المحتاجين قوت يومهم أو سداد ديونهم؟

إن هذا لخير عظيم، وباب مودة ورحمة بين الناس، ونشر للمروءة والتراحم بين أفراد المجتمع. ولكن علينا أن نفكر، وخاصة أن تجربة العمل الخيري تتقهقر وتتعثر. بل لم تكد تنهض. والشكوى من العمل الخيري في كل مكانٍ تقريبًا، فلم نستطع تعويض الأوقاف (كأداة فعل مجتمعي) بالعمل الخيري على الطريقة الحديثة!!

ثمة ثلاث ملاحظات: إحداهن تتعلق بالفاعلين، والثانية بالفعل نفسه، والثالثة تتعلق بالسياق. وأعرني عقلًا… وتكرمًا حاول أن تقرأ على مهل!!

جزء من الفاعلين يبحثون عن ذواتهم، فالمشاريع الخدمية في الغالب وسيلة للترقي اجتماعيًا، ووسيلة كذلك لمكاسب سياسية (ترشح للمحليات/ البلدية، أو مجلس النواب،)، سواءً أكان القائم عليها فردًا أم جهة “خيرية”.

والمشاريع الخيرية نوع من أنواع التسكين وليست علاجًا لمشاكل المجتمع بوضعه الحالي، فالمجتمع ينفق الكثير فيما لا فائدة فيه، فمثلًا: لو أن عندنا قرية، أو حيًّا سكنيًا تعداده مئة ألف، فإن به عشرون ألفًا، كمتوسط منخفض، يدخِّنون السجائر كل يوم (على اعتبار أن خُمس الناس فقط هم الذين يدخنون السجائر كما هو معلن في الإحصاءات)، أي ينفقون -كمتوسط منخفض- ما يعادل خمسين جنيهًا للفرد، أي تنفق هذه القرية أو الحي 1000000 (مليون جنيه) يوميًا،

يعني 30000000 مليون شهريًا.. يعني 000 000 360 مليون جنيه سنويًا فيما يضرهم ولا ينفعهم. وهذا في السجائر فقط فضلًا عما يجاورها من مخدرات بأنواعها المختلفة وقد انتشرت هذه الأيام بشدة؛ والسؤال: ماذا لو أُنفق ما ينفق على التدخين والمخدرات (حشيش وأدوية) في العلاج؟، علمًا بأن كثيرًا من الأمراض سببها التدخين؟!

شهر واحد من بندٍ واحد (التدخين) يكفي لأن يعالج المرضى.. وللأبد، بمعنى أن يؤسس لهم مؤسسات طبية تعالج المرضى الحاليين، وتعالج من يمرض مستقبلًا.

ويوجد في الحي أو القرية أو المدينة الصغيرة (ذات المئة ألف) خمسة آلاف طالب فيما دون الدراسة الجامعية، ينفق كل واحدٍ منهم متوسط مئتي جنيه على التعليم كل شهر، ما يعني أن مجموع ما ينفق في هذا المجال (200×5000=1.000.000)، أي 12مليون كل عام. وهي تكفي لتطوير قطاع التعليم كله في هذا الحي لو وَجَدَ الناسُ مخلصين حقيقيين يقفون بوجه هذه الظاهرة التي عطلت المدارس التي بنيت بأموال الناس وفيها من يتقاضى راتبًا من أموال الناس.. يقفون بوجه هذه الظاهرة (الدروس الخصوصية) التي تُعلِّم الطلاب فيما يشبه الغرز أو زرائب المواشي. فمن ناحية أهدروا الأموال، ومن ناحية أخرى أهدروا العملية التربوية، ومن ناحية ثالثة أهدروا أوقات الطلاب وأرهقوهم، وزادوا على ذلك أن أثروا على دورة رأس المال في الأحياء والقرى فنزعوا المال من الفقراء وركزوه في يد قلة من “المعلمين”، الذين أنفقوا هذه الأموال في شراء العقارات فارتفع سعرها. فأين من يأخذ على يد العابثين بأطفالنا وشبابنا ومقدرات أمتنا… أين من يأخذ ما يهدر من أموال وينفقها حيث ينتفع الناس؟

وأسألُ، واسألْ معي: كم تنفق القرية، أو الحي، أو المدينة الصغيرة (ذات المئة ألف) في أطعمةٍ وأشربةٍ إن لم تضر فلا تنفع، كالشيبسي والببسي والحلويات، وما أشبه؟!!

وكم تتضيع القرية، أو الحي، أو المدينة الصغيرة (ذات المئة ألف) من الأوقات كل يوم فيما لا ينفعها. بل قد يضرها، أمام التلفاز ومجالس النميمية… ؟، وما يتبع ذلك من نزع للبركة ونشرٍ للشر بين الناس؟!

إن من يرحم الناس يسعى لأن يصرف عنهم السوء، وأن يصلح من حالهم.. إن من يرحم الناس عليه أن يتجه لهذه الظواهر السلبية ويحاول علاجها، أما علاج المرضى وإعطاء المحتاجين، ففي أفضل أحواله تسكين.. ولا يمكن أن يؤدي للسيطرة على الأمراض والقضاء على الفقر، بل هو في جوهره صرف للناس عن أسباب شقائهم الحقيقية.. في جوهره تأخير للعلاج الحقيقي لهذه الظواهر السلبية.. في جوهره تكسب سياسي وبحث عن نفوذ اجتماعي على حساب الفقراء والمحتاجين.

إن للفقراء والمساكين، والمرضى وكل المحتاجين نفقةٌ قد أخذت منهم. أخذها من أهمل تطوير القطاع الصحي، ومن أهمل ضبط الخدمات العامة فانتشرت الأمراض المزمنة.. وأخذها “النواب”.. أولئك الذين اختارهم الناس لينوبوا عنهم في قضاء حوائجهم. اختارهم الفقراء والمحتاجون.. ليسنوا لهم من القوانين ما يصلح به حالهم، ويراقبوا الجهات المختصة في تنفيذ تلك القوانين، فانصرفوا لقضاء حوائج أنفسهم.

إن المعالجة بهذه الطريقة أخذ من محتاج لمحتاجٍ آخر، كمن يُرقع بعضه ببعضه.. يجرح مكانًا ليداوي آخرًا.  وإن المعالجة بهذه الطريقة تقوية للمستبد.. نحمل عنه-بأقواتنا وأوقاتنا- همَّ الفقراء والمرضى الذين هم ضحيته وعليه أن ينوء بهمومهم، عليه أن يقيم العدل ليأخذ كل ذي حقٍ حقه. فإلى متى؟!، وحتى متى؟!

أولى بنا أن نتجه للمشاريع التثقيفية، وهو ما يفعله المجرمون، فإنهم لا يشيدون مستشفيات ولا رعاية للأرامل والأيتام -إلا نفاقًا اجتماعيًا وفي إطار السيطرة على ما ينفق اضطرارًا في هذا المجال-، وإنما «يجاهدون» في وسائل الإعلام.. ويسيطرون على رؤوس الأموال والسلطة والنفوذ.. وأولى بنا أن نبصِّر الناس بمن قد أضرهم.. بمن قد منع الخير عنهم.. بمن أركسهم في هذا المستنقع الآسن وأدخلهم هذا الظلام البهيم. نبصرهم بأن الخير كثير.. بأن ثمة من يعبث بأرزاقهم وأبدانهم وأمنهم.. بأن خلف هذه الظلمات الموحشة والمستنقعات الآسنة رياض خضرة، عطرة، مضيئة، لن نصل إليها بتضميد الجراح، وإنما بكسر يد من استحل واستباح.

د. محمد جلال القصاص

دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى