د. محمد جلال القصاص يكتب: ما لم يفهمه الليبرالي!
حال حديثه عما سماه بـ«الأزمة الدستورية» تعجب من اهتمام المسلمين بالقيم دون الاهتمام بالمؤسسات. يقول: شهد التاريخ الإسلامي حالة من الضعف المؤسسي في مقابل الاهتمام الكبير بالقيم.
كيف استنبط هذه الملاحظة؟
ولماذا لم يحاول تفسيرها؟
يبحث المتحدث عن «دولة إسلامية معاصرة»، أو عن أسلمة الدولة القومية الحديثة. ويرى أن هذا الواقع شديد التعقيد، والذي يدار بمؤسسات بيروقراطية معقدة، أصبح حتمًا لازمًا، ولا يمكن الفكاك منه. ومن خلال موقفه هذا راح ينظر للموروث الثقافي في الأمة فوجده خليًا من الأشياء التي تناسب الواقع الذي نعيشه حسب فهمه.. وجده مليئًا بالقيم والمثل العليا، ولم يجد فيه إلا قليلًا من المؤسسات فظن أن نموذجنا الحضاري هناك… بعيد.. في الظلام.. أو في قاعٍ. ولا يستحق أكثر من السخرية منه وصدِّ الناس عنه. ولذا صرَّح بأن ما كتبه الأئمة الأعلام في السياسة الشرعية أصبح عبئًا على الحضور لا موردًا عذبًا!!
التعقيد من سمات العلمانية، والنموذج الإسلامي ليس بحاجة للمؤسسات المعقدة، ونضرب مثالًا بالتجارة (الاستثمار). في نموذجنا الحضاري قامت التجارة على الثقة بين البائع والمشتري، فكانت الصفقات تتم بالكلمة، وإن اشتدا الطرفان في طلب التوثيق للعقد استحضرا شاهدين ممن حولهم، وإن اشتدا أكثر فورقة تكتب في دقائق معدودة. هذا كل ما كان يستلزمه البيع والشراء في مجتمعٍ تسوده القيمُ والمثل الإسلامية. وظل هذا سائدًا إلى وقتٍ قريب. وحتى الوقف، وهو المؤسسة الأكثر انتشارًا في النموذج الإسلامي، لم يكن يحتاج لمؤسسات معقدة لإدارته، فقد كان كل وقف يدار على حده بشكل منفرد تحت مظلة الأحكام الفقهية الخاصة بالوقف. والمجتمع بقيادته الحقيقية (أهل الرأي وأهل الحل والعقد وأهل المروءات) حاضر يراقب ويصوب. لم يكن ثمة حضور للسلطة في شئون الناس كما يحدث اليوم، فالسلطة هي التي تحدد شروط البيع والشراء وهي التي تشرف على عمليات التجارة من خلال مؤسساتها (المحليات والقضاء).
والآن.. بعد أن ظهر الكافر والمنافق ومن لا خلاق له احتاج البيع والشراء لأيام من التفاوض بين البائع والمشتري، يتخللها جلسات بها أيمان فاجرة وأحاديث غيبة ونميمة، وتدابر، وضياع للمال والوقت، ثم عشرات الإجراءات في المحاكم، وقد لا يسلم التاجر بعد ذلك. حين تسود قيمنا فإن مركزية الدولة وتحكّمها في كل شيء يتراجع، ويرتفع منسوب الثقة بين الناس ويقل الصراع بينهم، فلا يحتاجون لعُشر معشار ما هو موجود من مؤسسات.
وقل مثل هذا في التعليم، فقد أخرجت القيم والمثل الإسلامية نموذجًا في غاية البساطة وغاية الفاعلية وقليل الكلفة (من حيث الوقت والجهد والمال)، وهو نموذج «الإجازات». وفيه: شخص بارز في علم من العلوم يَذهب إليه راغبٌ في تعلم هذا العلم ويَصحبه (يلازمه) إلى أن يتقن هذا الطالب ما يتقنه الشيخ ومن ثم يجيزه (يعطيه إجازة بأنه قد أتقن هذا العلم)، وفي هذه الطريقة كثير من الخير، مثل: أن المتعلم راغبٌ فيما يتعلمه وبالتالي يكون حريصًا وصاحب مهارة غالبًا، إذْ لا يُقْدم أحدٌ على تعلم ما يبغضه، وخاصة أن التفاضل في المجتمع الإسلامي بالتقوى لا بالحرفة ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات:13)؛ وفيه من الخير أن العالم- أو الشيخ، أو الأستاذ- يُخْدَمُ من طالب علمٍ وهي خدمة عالية.. يخدمه كأنه مولاه، كحال يوشع بن نون مع موسى عليهما السلام (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ) (الكهف: 60) – ولم يكن يوشع عبدًا لموسى، وإنما كان يلزمه ويخدمه لزوم العبد لسيده كي يتعلم منه، ثم ورثه بعد ذلك وفتح الله به بيت المقدس- وفيه من الخير أن العملية التعليمية تكون بين متمكن (الشيخ) وراغب (الطالب)، وبعيد عنها تمامًا من لا حظّ لهم ولا رغبة لديهم في العلم وأهله. هكذا ببساطة تتم العملية التعليمية، أما الآن فهذا الكم الغفير من المؤسسات شديدة التعقيد ثم ماذا؟
كل خريج في تخصص معين يحتاج إلى إعادة تأهيل كي يمارس ما قد تخصص في تعليمه، وكثير من مجالات الحياة بلا أكفاء فالتعليم في وادٍ وحاجة المجتمع في وادٍ آخر، وقد شرحت هذا مفصلًا في مقال بعنوان (حيث يحسن وحيث يحب).
نموذجنا.. قيمنا ومثلنا العليا تعيد صياغة الإنسان فتنتج فردًا آخر، صادقًا في تعاملاته ممتثلًا لما أمر الله مجتنبًا لما نهى الله عنه، فلا يقبل حرامًا ولا يظلم إنسانًا أو حيوانًا؛ وفوق ذلك مكّنت الإنسان من الخيرات التي أودعها الله في الأرض وفوق الأرض، فصار حرًا يتحرك كيف يشاء ويعمل فيما يشاء، ويتملك ما استطاع أن يصلحه (الإحياء)، ويقدم على ما يرى فيه الخير دون إذن من السلطة ما دام لم يضر غيره.. أصبح حرًا في شتى المجالات وليس في جزء من المجال السياسي كما هو اليوم. نموذجنا عالج أمة كانت في زيل الأمم.. يعبدون الأصنام ويأتون الفواحش ويقطعون الأرحام ويسيئون الجوار ويأكل قويُهم ضعيفَهم فأخرجت منهم خير أمة أخرجت للناس.
النموذج الإسلامي مختلف تمامًا، والإنسان المعاصر منتوج علماني كلية أو في تعاملاته، وفي أحسن الأحوال هجين. وأتحدث عن المجموع لا عن الجميع. ولذا خرج فينا من يتعجب من النموذج الإسلامي الأول ويراه بعيدًا.. ولا يصلح.. يراه ماضيًا قد انتهى. مع أن إعادة صياغة إنسان لا تحتاج للكثير من الوقت والجهد إن سلمت نوايا ذوي الأيدي والأبصار.
إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه هو: كيف نتخلص من هذه المركزية الشديدة التي غيَّبت دور المجتمع وجعلته مستعبدًا من سلطة مركزية.. وجعلته قلقًا مضطربًا ينفق كل ما يجد من وقته وجهده وراحة باله وماله؟ كيف نعود إلى الحياة الهادئة المطمئنة التي تسير بأقل نفقة من راحة البال والوقت والجهد والمال؟
والبحث عن إجابة نظرية ثم عملية لهذا السؤال فريضة على كل عاقل، فالعلمانية بأنيابها (مؤسساتها) مزَّقت الدين وأرهقت الإنسان وطاردته في دروب الحياة حيران لا يكاد يهدأ داخليًا ولا يستقر خارجيًا. وفوق هذا فإن العلمانية تتوحش يومًا بعد يوم وتصر على هضم القيم الإسلامية أو تلقيحها لإخراج شيئًا آخر لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يُعظِّم ماضية ولا يريده واقعًا، وإن العلمانية تتطور في اتجاه تمكين الإلحاد، والصراع الشامل، والعيش القلق المضطرب فلسنا أمام حالة تريد أن تأخذ وتترك (تتعايش)، وإنما أمام من لا يريدنا، وهو نفسه متقلب يتحول يومًا بعد يوم.
ولماذا لم يحاول التفسير؟!
من أبجديات تحليل الظواهر الاجتماعية (سياسية وغير سياسية) أن ترصدها وتبحث عن المتغيرات الفاعلة فيها، سواءً أكانت متغيرات مستقلة، أم وسيطة، أم متغيرات تابعة، ثم- في خطوةٍ ثالثة- تحاول التعرف على مستقبل الظاهرة، فلماذا لم يحاول الليبرالي تفسير الظاهرة؟ لماذا بعد أن رصد الظاهرة راح يستشهد بها على خفته الفكرية دون أن يتأملها ويحاول فهمها؟ لو كان يعظم نموذجه المعرفي ويثق بأنه من آثار الوحي (مع الأخذ في الاعتبار تشويهات البشر بموجب نقصهم الطبعي، ومع الأخذ في الاعتبار أن المسافة بين النص والتطبيق في النموذج الإسلامي أقل بكثير منها في النماذج الوضعية كالشيوعية والليبرالية، وغير الوضعية كاليهودية والنصرانية… إلخ) لوقف وقوف المنتمي يبحث عن تفسير مستيقنًا بأن في الأمر خير لابد من البحث عنه؛ ولكنه أشرب العلمانية ولم يعد يرى للخروج من هيمنتها سبيلًا، والله يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (غافر: 51)، والله يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة: 21).
وإذا تنازلنا وفكرنا بالمنظور «العقلاني/ الواقعي» فإن «دوام الحال من المحال»، فالأيام دول كما قال الله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} (آل عمران: 140)، وحركة التاريخ دائرية أمة تصعد ثم تهبط ولا يسير التاريخ في خط مستقيم صاعد قد وصل لنهايته واستقر عند علمانيتهم الملحدة كما يحاول الغرب إيهامنا.
إن زوال القوى الكبرى أمر مشاهد في كل جيل. فكل جيل يشهد زوال دولة ومجيء دولة أخرى، وقد سمع جيلنا عن بريطانيا وشاهد السوفيت وهم يرحلون وقريبًا- إن شاء الله وبحوله وقوته- يشاهد الأمريكان وهم يحزمون حقائبهم ونخلفهم من بعدهم بحول الله وقوته؛ وإن من يأخذ بأسباب النصر يحصل عليه، أما التصالح مع من يهدم دينك ويحملك (بالحال أو بالمآل) إلى الكفر والإلحاد فأقل ما فيه أنها حالة من قلة عقل وقلة مروءة. فعلى الرواد أن يفكروا في تمكين منظومتهم لا في تطويعها لصالح عدوها. ومن يعبث بحثًا عن ذاته، أو من قد سكر واغتر بكثرة المتابعين واعتلاء منابر العلمانيين، عليه أن يفكر بأنه موقوف غدًا بين يدي الله ومسئول ثم يساق إلى نارٍ تلظى أو إلى جناتٍ ونعيم؛ قال الله: (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت: 64).