مقالات

د. محمد جلال القصاص يكتب: مثل هذا وإلا فلا!

في صباح كل جمعة كنت أرى جمعًا غفيرًا من الطلاب بثوب أبيض ومصحف وسواك، يسيرون في اتجاه واحدٍ، وكأن اليوم يوم دراسة لا يوم أجازة، وما سألت ُ أحدا إلى أين؟ إلا قال لمسجد التوحيد أو إلى (فوزي السعيد).

 كنت أستخف بالأمر، وأقول في نفسي لو: أراحوا أنفسهم من هذا العناء؟!

 كان الخيال يرسم لي صورة أهل اللحى والثوب الأبيض وكأنهم يجلسون في الظل الظليل ويشربون الماء المعين، ويبحثون عن النساء والبنين، ويتفقهون في النفاس والحيض. أو غَلِقون.. متشنجون.. يكفرون ويبدعون، وفي غير هذا لا يفقهون. وأقول: والمسلمون يذبحون في البوسنة والهرسك والشيشان وأفغانستان والصومال وفلسطين؟! ألا هدى الله السلفية والسلفيين.

 كان الحديث عن فوزي السعيد أو مسجد التوحيد عاليا وفي كل مكان، وذات يوم أخذني الفضول، وذهبت إلى مسجد التوحيد في حي “غِمْرة” بالقاهرة لأرى هذا الذي يذهب إليه الذاهبون، وتدور بذكره المجالس. كان هو الخطيب يومها. وكانت الخطبة عن “المَكر/ التحايل”، جلستُ منشغلا بحال الرجل (فوزي السعيد). مُغضبٌ، ثائرٌ، كأنه مَوْتور جاء يستغيث، قد احمرَّ وجهه، كأنما فقئ فيه حب الرمان، عال الصوت كأنه منذر حرب، ويقف على أطراف أصابعه طول الخطبة (يشب من على المنبر)، كأنه منذر حرب. جريئ يتكلم وكأنْ لا رقيب. ومؤدب لا يتعدى بلفظ أو فكر.

 انشغلت بحاله عن مقاله. وقلت في نفسي: ليس هذا بالجبان المستكين، الذي يبحث عن الظل الظليل، والماء المعين، والنساء والبنين.

 أخَذَت الخطبة ساعة ونصف الساعة، ونزل هذا الأسد الجسور من على منبره وصلى بالناس، ثم تحدث ربع ساعة أخرى يكمل فيها الموضوع، ووقف كثير من جمهوره الغفير، قدَّرته يومها بما يزيد على عشرة آلافـ، دققت النظر في عينيه أستأنسُ.. رجاء أن أسلم عليه، وما تجرأت، وحين انتهى من كلمته، أذاع جدول دروس تلقى طوال الأسبوع في المسجد، بقيت قريبا منه أرقب أنفاسه وحركات عينيه. انصرف الناس من حوله، وحمل حذائه ومشى، يُحدث نفرًا أو نفرين بأشياء في المسجد.. افعلوا كذا.. وكذا.. ثم انصرف يمشي وحيدا. ـ كنت أسمع أنهم- أي السلفيون- يحيطون بشيوخهم، ويكادون يقتتلون عليهم، وهذا يمشي وحيدًا.

ـ أبيض اللون.. يَحْمَرُ حين يخطب.. مُلَّون العينين.. لحيته قبضة أو تزيد قليلا، وأحسب أن قصرها من تجعدٍ أمسك بطولها، طوله 175سم أو يزيد قليلا، كأن جدّه من بخارى، يبدوا عليه الإنهاك الشديد ـ علمت بعدها أنه مريض بالسكري والضغط ـ. ويحمل أوراقًا، ونظارتين إحداهما للقراءة والثانية للنظر، يغير بينهما كثيرا وهو يخطب، ولا يرتدي أيًا منهما وهو يسير.

ـ تعلقت بهذا الرجل، ولم تكن الدراسة بالجامعة تسمح لي بالحضور يوميًا إلى دروس المسجد (الفقه، والعقيدة، والتاريخ، والحديث والتفسير..). وكذا الحالة المادية، فقلت لألزمن هذا البطل يوم الأحد، وكان درسه في العقيدة، تركت الأدب والتاريخ وأمسكت في العقيدة حبًا في (فوزي السعيد)، وبقيت تحت قدميه أربعة أعوام، أتعلم من حزمة وعزمه وحرصه الشديد على الخير قبل علمه، أحضر الدرس وأحضر الخطبة، وأرقب تفاصيل ما يحدث في المسجد، وما كنت أتكلم لأحد في المسجد بأي كلام. وإن وجدت فسحة من مال ووقت أتيت لدرس آخر بما يتيسر وقتها حبًا في مجالس العلم.

 فوزي السعيد أو مسجد التوحيد قصة ساهمت في تغيير واقعنا المعاصر في مصر، شاء من شاء وأبى من أبى. ولن يمحوها إرهاب الدولة لكل من انتسب لمسجد التوحيد أو (فوزي السعيد). أو تسلط بعض المغرضين الحاقدين.

 فوزي السعيد أو مسجد التوحيد قصة. وددنا لو أنها تكررت هنا أو هناك، فالملاحظ في العمل الدعوي أنه فرديٌ، الشيخ وحده في المسجد، والمشاريع فردية، وأغلبها مكررة، يقيم أحدهم موقعا ـ إلكترونيًا ـ فيقلده الباقون. ويخطب أحدهم في موضوع ويردد الباقون، أما مسجد التوحيد فعدد من الشيوخ، ومِنْ عِلية القوم، وعدد من المساجد يديرها مسجد التوحيد في غمرة ـ أو فوزي السعيد من غمرة ـ واسمع: خطباء الجمعة في المسجد الشيخ فوزي السعيد، والشيخ نشأت أحمد ـ وقل عنه مثل ما يقال عن الشيخ فوزي وإن شئت فزد، والشيخ محمد حسان، وهو غني عن التعريف، والشيخ الدكتور جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي، وكان يتخلف كثيرًا عن الحضور. ويحضر بعض الأخيار من فترة لأخرى. وفي المسجد يحاضر الشيخ الدكتور / محمد عبد المقصود وهو كبيرهم وصاحب الرأي فيهم، وفي المسجد الشيخ الدكتور سيد العربي، والشيخ / أبو الأشبال، وجاء في الأخير الفاضل الماجد الشيخ / محمد عبد الحميد حبسه (أبو معاذ) ـ حفظه الله من كل سوء ـ

ـ ولم يكن المسجد فقط للعلم والتعلم، بل كان لـ “الحض على إطعام المساكين”. والحضُّ على إطعام المساكين مشروع لإطعام فقراء الحي المجاورين للمسجد. إذ يكفل المسجد ما يزيد على خمسة آلاف فرد، كان هذا قبل أن أنقطع عن المسجد ويقينا زاد العدد بعد ذلك.

 والمسجد يطبع بعض الكتب بسعر التكلفة، والمسجد يقيم محاضرات في الإعجاز العلمي ويستخدم وسائل متطورة في عرضها.

 ويقام أمام المسجد كل جمعة وكل يوم بعد الدرس سوقٌ للكتب والأشرطة الإسلامية بل والملابس التي تعارف الناس على أنها ملابس شرعية للمرأة.

ويسير المسجد في طرحه للقضايا، هو والمساجد التي تتبعه، في خطط مدروسة لا تخطئها عين. ويكاد يذهب بعقلك حسن التدبير والإفادة من كل ممكن في أيديهم. وكذلك حسن العشرة بينهم.

ما عرفنا الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ والشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله، والشيخ بكر أبو زيد، والشيخ سفر الحوالي، والشيخ ناصر العمر، وسلمان العودة، وعائض القرني، إلا من الشيخ فوزي السعيد أو مسجد التوحيد. ـ كل هذا والقيم على المسجد ـ الشيخ فوزي السعيد ـ مهندس يعمل طول يومه، وربُّ أسرة، ومريض يكاد يقتله السكري وضغط الدم المرتفع، وأمراض أخرى؛ فأي همة هذه؟ وأي نفس هذه التي بين جنبي هذا الشيخ؟

 تحدث الشيخ الدكتور سيِّد العربي ذات يوم ـ في دروس الإرجاء فقال: أحسب أن الشيخ فوزي لو وجد شيئا في الطريق ينتفع به الناس هنا في المسجد لحمله على ظهره وأتى به إليهم من شدة حرصه على الخير. قلتُ: لحمل الثقيل على الظهر أيسر مما كان يفعل الشيخ، قد كان يُعرِّضُ ظهره لسياط الجلادين وفِعال المجرمين كي يصل الحق للناس.

 جلستُ أمام كثيرين، ولم أجد أحدًا همه الأول الدعوة وليس رصيده الدعوي كالشيخ فوزي السعيد. يقول: احضروا للشيخ فلان فهو والله خير مني، ويوم الجمعة يأتيكم الشيخ فلان فلا تفوتوا الخطبة، وإني ذاهب إلى مسجد السادس من أكتوبر فلا تأتوا خلفي فلن تستفيدوا كثيرًا فالخطبة هناك تُعنى بالمبتدئين.

 قضية الشيخ فوزي السعيد الأولى هي الأسماء والصفات… أسماء الله وصفاته، وأعمال القلوب، وأمراض الأمة، والسنن الربانية، وله في ذلك طرح علمي لم أجده لغيره، واتصلت به من فترة أطمئن على حاله، فإذا به يقول فتح الله علي بأشياء في الأسماء والصفات لم أسمع أحدًا تكلم بها من قبل، ولم أكن أعلمها من قبل. فقلتُ ـ في نفسي ـ: ربك مطلع على القلوب يعطي الخير لأوليائه. فهنيئا أبا أيمن.

 ألا مثلُ أبي أيمن وإلا فلا.

ألا مثل مسجد التوحيد وإلا فلا!

 موقف من مواقف!

 ذات مرة ركبت “ميكروباص” من ميدان رمسيس متجها للشمال ـ حيث بلدي التي أعيش فيها ـ وجلس بجواري عجوز، فرحٌ مسرورٌ، يلتفت يمنة ويسرة من فرحه، وأحسست أنه يريد الحديث مع أحد من شدة فرحه، فكففت مصحفي وتكلمت إليه فإذا به قادم من محافظة البحيرة (في شمال مصر.. يمر من بين ثلاثين مليون أو يزيدون) كي يسمع الشيخ فوزي في القاهرة، وإذا بالميكروباص ستة أفراد على الأقل هذا حالهم.

 يحبونك أبا أيمن، ويقطعون مئات الكيلومترات كي يسمعونك، ويهشون ويبشون فرحا بحديثك. أبا أيمن!

 اشتد حسّادك، والله لا يصلح عمل المفسدين.

سكتوا عنك، وكأنهم لا يعرفونك، وكأن القاهرة كلها، بل مصر كلها، لم تكن تذكرك فرحًا أو حقدًا وحسدًا!

 جلس إليها الخبيث يوسوس لها وتسلط عليها الجبان، فشدوا وثاقها وأحكموا أُسارها. ولم تنسك… تُحدث عنك بالسرّ خالية… وبحول ربي وقوته لن تنساك. فغدًا يفكُ أسارها، وتجلس بين أبنائها تحدثهم بأيامك وتحكي لصبيانها أفعالك، فنم قرير العين يا بطل.

 حفظك الله أبا أيمن.. وأجزل الله مثوبتك.. وأحسن الله خاتمتي وخاتمتك.

د. محمد جلال القصاص

دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى