د. محمد جلال القصاص يكتب: من يثور؟ ولصالح من؟
تفسير الحدث يُغير النظرةَ إليه، كليًا أو جزئيًا. فأنت تَفهم (تُفسِّر) ما تراه أو تسمع به بناءً على منظومة العقائد والتصورات التي بداخلك. وعلى سبيل المثال: داعش كيف تراها أنت وكيف يراها غيرك؟؛ وأحداث رابعة (الاعتصام والفض): كيف تراها أنت وكيف يراها غيرك؟!، وخير خلق الله، صلى الله عليه وسلم، كيف تراه وكيف يراه غيرك من الكافرين والمنافقين.. أتباع الشياطين؟!
ولذا فإن الصواب أن تفتش عن الرؤية التي ترى بها الحدث أو الرؤية التي يُقدم لك من خلالها الحدث، أو على الأقل تتحرك حول الحدث وتنظر إليه من أكثر من زاوية.. بأكثر من رؤية.
ظهرت الثورات مع الدولة القومية، وذلك من أجل تغيير السلطة الحاكمة. وتقوم على تحريك الشعوب من أجل إزاحة سلطة والإتيان بسلطة جديدة، وفي كل مرة نخبةٌ ما هي التي تحرك الجماهير من أجل مصلحتها الخاصة لا مصلحة الجماهير، ففي كل ثورة يكون حصاد الحراك الجماهيري (الثورة) هو تحقيق مصالح النخبة الصاعدة. فبعد كل ثورة يحدث تغيير في طبقات المجتمع، تذهب نخبة وتأتي أخرى ولا يتغير حال الجماهير من حيث العموم.. يصعد منها جزء للنفوذ والسلطة ويهبط إليها جزء آخر ممن كانوا من ذوي النفوذ والسلطة ويبقى حالها على ما هي عليه إلا قليلًا، مع الأخذ في الاعتبار أن غالبية النخبة تحترف التكيف مع التغيرات، وإن سقط بعض أفرادها يستدير البعض الآخر ويعاود الالتحاق، فالمال والنفوذ لهما أهل وخلّان يعرفون طريقهما جيدًا.
ماذا تفعل النخبة؟
تفسر المشهد للجماهير على أنه ظلم واقع عليها، وتربط بين زوال الظلم وزوال النخبة الحاكمة، وكأن السبب هو أشخاص من يحكمون لا المنظومة العقدية السائدة وما نجم عنها من مؤسسات. وتتحرك الجماهير في مشهد مؤقت ولحظي لمساندة النخبة الثائرة ذات الأهداف الخاصة؛ وبعد أن ينتهي المشهد وتحصل النخبة المحركة للجماهير على ما تريد من سلطة ونفوذ تقدم للجماهير تفسيرًا آخر يجعلها تقبل الواقع راضية أو راغمة!
ويهدأ الوضع وتمر الأيام. ثم تتكون نخبة من داخل السلطة في الغالب، وتموج بالمجتمع موجة جديدة وتستخدم الجماهير من أجل الحصول على السلطة والنفوذ من خلال (ثورة جديدة).
وحين ندقق في المشهد أكثر نجد أن الثورات لها وظيفة أخرى وهي أنها قد تستخدم أداة لغسل فترة زمنية؛ بمعنى: أن الثورة تجب ما قبلها. يذهب الذين تمت الثورة عليهم بما كسبوا دون أن ترد منهم الحقوق حتى وإن حوكموا، وإن قُتل بعضهم. ثم تبدأ نخبة أخرى في الجمع من أقوات الناس ومدخراتهم…!!
والثورة بهذا المعنى ضرورة من ضروريات تطوير مجتمع الدولة القومية وحلّ أزمات النخبة فيه، فهي آلية تدويل النخبة داخل الدولة القومية.. وآلية طحن النخبة الصاعدة المعارضة والقديمة المهترئة.. هي أداة لإزاحة قومٍ والإتيان بآخرين. وإذا أخذنا في الاعتبار تبعية مجتمعات الجنوب (وهي الدول النامية، وهي التي يحدث فيها الثورات في العقود الأخيرة) لدول الشمال (الدول المتقدمة) التي تتحكم في النظام الدولي؛ وإذا تدبرنا في المشهد قبل كل ثورة وبعدها، فسنجد أن كل ثورة تدفع المجتمعات إلى مزيدٍ من التبعية للنظام الغربي، بمعنى أن الثورات تطوير لمنظومة القيم وما انبثق عنها من مؤسسات في اتجاه التبعية للغرب. وأرجو أن تدبر حال مصر قبل ثورة 18.5حيث كانت تحاول النهوض بأدوات منظومة القيم الإسلامية القائمة على تمكين المجتمع من تسعة أعشار مناحي الحياة وبقيادة أهل الحل والعقد وأهل الرأي والمروءات، وحالها بعد الثورة وقد تحولت لدولة قومية تجمعت كل السلطة وكل الثروة في يد النخبة الحاكمة. وتدبر، أيضًا، حال مصر قبل ثورة 1982 وقد كانت تحاول النهوض والاستقلال بذاتها وحالها بعد الثورة وقد غرقت في مستنقع الاحتلال الغربي سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا فتراجع الأزهر وتراجع التجديد الأدبي ودبت واشتدت المنظومة الغربية في كل المجالات. وبعد ثورة 1919 تعرض المجتمع لدفعة أخرى باتجاههم، فانتشرت الشيوعية والليبرالية حتى عرفت الفترة التي تلت هذه الثورة بالعصر الليبرالي، ثم جاءت ثورة يونيو 1952 لتقضي على بقايا المجتمع الإسلامي التعاوني وتدشن مرحلة تحول كلي في اتجاه النموذج الغربي، وتقضي على بقايا السياق الأممي (أمة إسلامية) لصالح سياق (دولة). ثم كانت يناير 2.11 ويوليو 2.13 وما بعدها إنهاك شديد للمجتمع من خلال صراع ينهك الجميع، فأصبح المجتمع بلا طاقة للمقاومة بل بلا مقومات للفعل.. أي فعل. هذا نتاج الثورات يا سادة.
أين الإسلاميون من كل هذا؟
يمتلك الإسلاميون كثرة عددية تصل إلى ثلثي المجتمع (نتائج الانتخابات مؤشر)؛ ويتعرضون للمظلومية، ولذا يتلقون خطاب النخبة (الثائرة) ويرحبون به، ويدعمونه؛ ولذا-أيضًا- يُنكِّل بهم من في السلطة كي لا يدعمون النخبة الجديدة الثائرة؛ وإن حدث التغيير يبدأ بهم الوافد الجديد (الذي أعانوه) خوفًا من أن ينازعوه السلطة أو يعاونون من ينازعه، وكذلك ينكل بهم إرضاءً للخارج الرافض لهم جملةً!!
بكلماتٍ أخر: يستدعون كأداة لتمرير «الثورة/ تغيير النخبة/ تركيع المجتمع» ويتم إقصاؤهم والتنكيل بهم بعد الانتهاء من التحولات السلطوية والمجتمعية، وقد كانوا عماد ثورة 1805 (الأزهر)، وثورة 1919 (الأزهر)، ثم ثورة 1952 (الإخوان المسلمون) بعد أن تخلت الأمة عن واجبها في القيام بالدين وتحول الأمر إلى جماعة من الناس، ثم ثورة يناير (الإخوان والسلفيين)، والآن تم طحنهم وإرجاعهم. وسيتم استدعاؤهم حين تقرر نخبة سلطوية ذات نفوذ تغيير المشهد.. أو حين يقرر النظام الدولي تطوير المشهد في اتجاه غربي مرة أخرى ب “ثورة”.
إن ما يطلق عليه الآن (ثورة) أداة لتطوير المجتمعات في اتجاه غربي، وهو ما يناقض تمامًا ما يسعى إليه الإسلاميون. ولذا فإن المشاركين في كل (ثورة) يتحدثون أولًا عن «شكل الدولة» وأنها لابد أن تكون «دولة مدنية»، بمعنى علمانية دور الدين فيها غائب أو محدود.
وفي الواقع المعاصر نموذج عملي، تحديدًا في المجتمعات التي تسبقنا بخطوة (ما يقال له الدول المتوسطة في أمريكا الجنوبية مثلًا) ظلت تثور وتثور حتى استقرت في ركاب الغرب: دولة اقتصادية رأسمالية ديمقراطية يزداد فيها الغني غنًى والفقير فقرًا، وتعتمد على الغرب في مواردها وأسواقها، بمعنى أنها لا تستطيع التمرد عليه، بل تسير خلفه طوعًا أو كرهًا. والمنطقة الإسلامية العربية يتم طحنها وغرس قيم الرأسمالية وأدواتها فيها، لإعادة بناء المنظومة العقدية والواقع الاجتماعي للشعوب على قواعد الغرب، ومن أهم الأدوات لفعل ذلك هو «الثورة».
الثورة لا تقضي على الظلم، بل تستبدل ظلمًا بظلمٍ أشد منه، وإن الصراع في جوهره صراع بين النخب، وما الجماهير إلا وقود.. دواب. وإن للتغير مسار آخر لم نهتد إليه بعد.