مقالات

د. محمد جلال القصاص يكتب: هل انتصر الطالبان على الأمريكان؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

حالة من الاحتفاء بالمفاوضات بين الطالبان والأمريكان. يقولون: انهزم الأمريكان أمام الأفغان كما انهزم الإنجليز وكما انهزم السوفييت، فهل حقًا انتصر الطالبان على الغرب بقيادة الولايات المتحدة؟!، وهل حقًا انتصر الأفغان من قبل على الإنجليز والسوفييت؟!

مَن يُقيِّم الصراع على مستوى معركة عسكرية.. مَن يجعل الصراع هو القتال المسلح في فترة زمنية محددة.. مَن يرى أن الثبات على المبادئ في وجه المخالف، وخاصة حين يكون قويًا شديد البأس كالغرب بقيادة الولايات المتحدة، نصرًا، حتمًا سيقول: انتصر الطالبان. وأنا مع هؤلاء أفاخر بأيام الأفغان في وجه الإنجليز والسوفييت والأمريكان، وأرى أن الموت على المبدئ نصر مبين. ولكن: هل يجوز لنا أن نقيّم الصراع على مستوى معركة؟!، هل يصح لنا أن نصور مشهد الانتصار في القتال المسلح ثم لا نتحدث عما بعد المعركة؟ ثم: لماذا يحدث هذا الخلل في التقييم؟!، لماذا لا نطرح سؤال التمكين وهو هدفنا الذي نتحدث عنه ليل نهار؟!

لم يكن الصراع مع المخالف يومًا صراعًا مسلحًا فقط، فكل أمة تجادل وتقاتل، بمعنى أن الحق والباطل يلتقيان في ساحة الجدال وساحة القتال. كما أخبر العليم الخبير، سبحانه وتعالى،: (وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، والذين يجادلون هم الذين يقاتلون، والأصل هو الجدال ويأتي القتال كفعل مؤقت لإزاحة من لا يجدي معه بيان.. من يضل الناس بغير حق. وللأسف هذا ما يفعله المخالف بنا، يطور المجتمعات الإسلامية بأدواته الثقافية لتتبنى قيم العلمانية منهجًا للحياة، ويأتي القتال في سياق إزاحة الذين يعارضون العلمنة وأهلها. بمعنى أننا فقط نقاوم، ومقاومتنا لا تجدي أكثر من تأخير التطوير، والواقع أن تطوير الغرب لواقع الدول الإسلامية يتمكن منا يومًا بعد يوم، وأمارة ذلك في حال المجتمعات الإسلامية والتي تتبنى قيم العلمانية منهجًا للحياة يومًا بعد يوم: في السلطة (الحكم) في الشارع، في البيوت…

حين انهزم الإنجليز في مطلع القرن العشرين من الأفغان لم يحدث تمكين للدين بعدها، وكذا حين انهزم السوفييت، بل عاد الكفر من طريق آخر وتمكن من رقاب العباد والبلاد، أو على الأقل حال دون تمكن القيم الإسلامية من واقع الناس، بل استطاع أن يعرقل الذين رفضوا قيم العلمانية من صناعة واقع جديد.. حال بينهم وبين حضور قيمهم واقعًا.  كما حدث بين المجاهدين الأفغان بعد رحيل السوفييت، وكما حدث في التجربة السودانية.

بوضوح تام: الخلل عند من يقيّم الصراع بمعركة. الخلل عند من يقف عند المستوى التكتيكي ولا يرقى للمستوى الاستراتيجي (استراتيجية أو سياسات عليا). الخلل عند من يغفل عن أبعاد الصراع المتشعبة ويقيمه على بعدٍ واحدٍ فقط، ولا يريد أن يجهد نفسه في التعلم، ثم هو يخدّر الناس بحديثٍ عن انتصارات جزئية والمحصلة هزيمة نكراء للأمة وسير بها في ركاب عدوها.

وفي المشهد الذي نراه الآن قراءة أخرى لعقلية الذين يبشرون بالنصر المبين من خلال المفاوضات مع الطالبان. هذه العقلية- إن أحسنَّا الظن بها- تبحث عن أي شيء تبث به الحماسة في صدور الناس، وتحاول رفع حالة الاكتئاب التي حلت بالجميع بعد أن غلبوا، وهذا لا ينفع، فالناس تفهم بعد حين ويصابون بمزيدٍ من الإحباط. فالأمريكان لا ينسحبون، وإنما يسلمون أجندتهم لمن يقدر على تنفيذها حتى وإن كان “مجاهدًا”، يقاتلون بيد غيرهم، ويبحثون الآن عن أمان على الأرض لمد خطوط الغاز، ولا يمانعون من ترك بعض التنزلات للحلفاء مؤقتًا، وإن كانت تنازلات دينية، كما حدث في نموذج التحالف السعودي الوهابي من قبل، ثم يستخدم هذا التدين في صنع صراع والاستثمار فيه داخل الحالة الإسلامية. ولك أن تلاحظ حضورهم في المشهد الأفغاني من خلال حضور الدواعش على أطراف طالبان، ومطالبة الطالبان بالتزام موقف وطني (أفغاني) والتبرؤ من الجهاد العالمي (القاعدة)، بمعنى أن يكتفي الطالبان بدولة قومية.. وهو نوع دخول تحت مظلة العلمانية العالمية، ولن يرحلوا سيبقوا في المشهد يديرون صراعًا بين حلفاء وأعداء محليين لإنهاك الجميع ثم يظهرون ويفرضون رؤيتهم على الجميع، تمامًا كما فعلوا في العراق فقد أعلنوا الانسحاب من قبل، وحقيقة لم ينسحبوا ولم ينتصر غيرهم، وكما يفعلون في الشام واليمن…

الدرس يتلى من كل مكان ولا نريد أن نتعلم…!!

لست متشائمًا، وليس لي أن أكون متشائمًا، فقد قضى الله أن الغلبة للمؤمنين في الدنيا قبل الآخرة (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:81)، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21). ولكننا أمرنا بإحسان العمل، وما يحدث هو نوع هروب وتسطيح للأمور، ولذا لا نتعلم الدرس، ولذا نعيش حالة من الوهم. ولا نريد أن نفيق.

المعركة في صلبها حول تحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات علمانية.. حول استعباد الناس لنخبة المال والسلطة (الأوليجارشية)، والقتال المسلح مرحلة مؤقتة، وهم يستخدمون أسلوب الكر والفر، والسياق العام لصالحهم، وليس بيننا من يمتلك رؤية لصراع ممتد مع الغرب.. أو بيننا ولا أراه أنا.

محمد جلال القصاص

يناير 2019

د. محمد جلال القصاص

دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى