مقالات

د. محمد عياش الكبيسي يكتب: التورّم المعرفي مرض العصر

نحن لا نشكو في هذا العصر من قلة المعارف وإنما نشكو في الحقيقة من تكاثرها العشوائي الذي يفتقر إلى النسق البنائي والأمانة العلمية واحترام التخصص، ومن مظاهر ذلك:

1- كثرة المنشورات غير الموثقة؛ مئات الأحاديث المكذوبة، مئات الروايات التاريخية والقصص والحكم التي ليس لها سند ولا مصدر، سرقات علمية، نسبة فتاوى ومواقف لعلماء ليس لهم صلة بها، وبعض الناشرين عندهم غاية الورع أن يختم منشوره بقوله: (منقول) أو (كما وصلني) وهذه لا تبرئ ذمة الناقل أبدا.

2- الجرأة على القول بدون علم في أي باب يُفتح أو موضوع يُطرح، فكل من له حساب على مواقع التواصل تتوقع منه أن يكون فقيها ومفسّرا ومحدّثا ومؤرخا وسياسيا واقتصاديا وطبيبا وفلكيا، ثم إذا أراد أن يتورع يختم منشوره بقوله: هذا رأيي والله أعلم. وهو لا يدري أن أي قول بلا علم إنما هو اثم وعبث، وهناك فرق كبير بين مجال (العلم) وبين (الرأي) الذي هو بمعنى الرغبة والهوى، فالإنسان حر فيما يشتهي لكنه ليس حرا في العلم وفيما ينقله أو يرجحه بل لا بد من اتباع القواعد والأصول العلمية في ذلك.

3- ومن أغرب مظاهر التورّم المعرفي والتي أعاني منها شخصيا؛ أنا أستشير الطبيب المسلم مثلا لكي أبني على قوله فتوى، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فيجيبني بما موجود عندنا في كتب الفقه وليس بما موجود عندهم في كتب الطب!

ولقد تحاورت مع بعض المشايخ الأفاضل في مسائل طبية وفلكية فأستغرب من شدة التباين الذي يصلهم! ثم أكتشف بعد ذلك أساس المعضلة، قلت مرة لعالم فلكي ووالله هو من خيرة الناس علما وخلقا: هل صيام الدولة الفلانية كان صحيحا؟ قال: نعم، قلت كيف وعلماء الفلك يقولون: الهلال لم يتولد بعد، قال: نعم الهلال غير موجود بكل تأكيد لكن الشرع أمرنا أن نأخذ بشهادة الشهود، وأنا فسّرتها أنها ربما تكون كرامة لأهل ذلك البلد.

وقال فلكي آخر؛ نحن تبع لولاة الأمر، وهذه أقوال لها مجالها طبعا، لكن حينما يقولها الفلكي يوهم الناس أن هذا من علم الفلك، ولذلك يشيع عند بعض المشايخ أن الفلكيين مختلفون وأن علم الفلك ظني، وما هو كذلك.

وأذكر أيضًا أني اتصلت بأخ فاضل وهو طبيب متمكن أسأله عن حالة صحية تتعلق بالصوم، فقال اطمئن ١٠٠٪ ولكني كنت سمعت من أطباء آخرين غير ذلك، فقال بعد أن استوضحت منه: حاشا لله أن يجعل في العبادة مضرة على أحد! ثم اتصلت بطبيب آخر فقال: أنا لا أقدّم أية معلومة يمكن تكون سببا في إفطار صائم! ومن موقع تخصصي أقول لإخواني هؤلاء: إن الموقف الشرعي يتطلب منكم تزويدنا بالمعلومات الدقيقة كما هي عندكم بكل أمانة وحيادية، أما هذا الورع فليس مقبولا في دين الله أبدا.

د. محمد عياش الكبيسي

مفكر وداعية إسلامي، دكتوراه في الفقه الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى