الأربعاء يوليو 3, 2024
مقالات

لطلاب العلم خاصة

د. محمد عياش الكبيسي يكتب: القطع والظن في مسائل العقيدة

هذه رسالة جوابية لسؤال متشعب وصلني أمس، واحببت تلخيصها ونشرها هنا لتعم الفائدة إن شاء الله تعالى.

١- يثور جدل بين الفينة والأخرى حول شروط الدليل العقدي، ومدى حجية الأدلة الظنية (ورودا أو دلالة) في مسائل العقيدة، ومن ذلك مسألة (حديث الآحاد).

٢-الذي أجزم به أن أصل الخلاف في هذا الموضوع خلاف نظري، بل قد يكون خلافا لفظيا، وذلك بملاحظة النقاط الآتية.

٣-إن أصول العقيدة كلها جاءت بالأدلة القطعية اليقينية، من القرآن المحكم والسنة النبوية المؤكدة، وذلك مثل: التوحيد، والنبوة والمعاد، وما يتصل بها اتصالا وثيقا مثل: حفظ القرآن، وختم النبوة بمحمد عليه الصلاة والسلام، ووجود الجنة والنار، وباقي أركان الإيمان المعروفة، ومن ثم كان الجزم بهذه الأصول شرطا في الإيمان، فمن شك في واحدة منها فقد خرج من الملة. فالأمة كلها ينبغي أن تتفق على هذه الأصول، بل إن الأمة لم تتشكل ابتداء إلا بهذا الإيمان.

 ولذلك يكون الجدل حول حجية (أحاديث الآحاد) مثلا في هذه الأصول جدلا لا معنى له، ولا حاجة له أصلا.

٤-هناك فروع كثيرة من مسائل العقيدة وأخبار الغيب، لم ترد بأدلة قطعية، مثل: تحديد أسماء الله تعالى التسعة والتسعين، حيث إنها لم ترد مجموعة في نص قاطع، وكذلك القول بنبوّة الخضر صاحب موسى -عليهما السلام- ونبوة المرأة، وبعض صفات الأنبياء وأخبارهم، وبعض أحوال اليوم الآخر، وبعض الأخبار المتعلقة بالعوالم الغيبية كالملائكة والجن.

إن هذه الفروع كلها أدخلت في مسمى (علم العقيدة) بعد تصنيف العلوم الشرعية، لكنها بكل تأكيد ليست شرطا في الإيمان، فلو توفي مسلم وهو لا يعرف كل أسماء الله تعالى وصفاته، أو لا يعرف كل أسماء الأنبياء، ولا كل صفات الملائكة والجن والعرش والكرسي ولا كل صفات الجنة والنار،

فإن هذا لا يقدح في أصل إيمانه ولا إسلامه، ويكفيه أن يؤمن بتلك الأصول أيمانا قاطعا ثم يؤمن إيمانا إجماليا بأن كل ما ورد من تفاصيل هذه الأخبار في الكتاب والسنة هو الحق.

نعم إن معرفة كل هذه التفاصيل هي من فروض الكفايات، كأي علم آخر من علوم الشريعة. فلا ينبغي أن تهمل أو تترك.

٥-إن هذه الفروع الكثيرة لم يختلف المسلمون في طريقة الاستدلال عليها، فكلهم يأخذ بالحديث الصحيح ولو كان آحاديا، ومن يقرأ مثلا كتاب (إحياء علوم الدين) لحجة الإسلام الغزالي يجد هذا واضحا، بل لقد أكثر الغزالي في الاحتجاج والاستشهاد بما دون الصحيح، من هنا نعلم أن القول بعدم حجية الآحاد في مسائل العقيدة إنما يقصدون أصول الإيمان، وليست هذه الفروع.

٦- ولما كانت هذه الفروع تقبل الاحتجاج بالأدلة الظنية الراجحة وبأحاديث الآحاد كان الخلاف متوقعا بين أهل العلم، إذ المحدثون أنفسهم قد يختلفون في بعض الأحاديث تصحيحا وتضعيفا، فما بالك إذا أدخلنا مباحث (دلالات الألفاظ) و (قواعد التخصيص والتقييد والترجيح)

وأوضح مثال على اختلاف المحدّثين؛ أن يروى الحاكم في مستدركه كثيرا من الأحاديث ويقول هي على شرط البخاري أو شرط مسلم، بمعنى أنه يرى صحتها، ثم يتعقبه الذهبي بتضعيفها.

وهذه كلها من الجهود المشكورة في خدمة السنة النبوية، وهي تنفعنا في التخفيف من حدة الخلاف بين العلماء وهم يبذلون جهودهم لاستنباط الأحكام العقدية التفصيلية أو الفقهية من هذه الأحاديث ونحوها، و (رفع الملام) عنهم.

٧- ثم إن على المسلم أن لا يتضايق من الخلاف في هذه الفروع حتى وإن جاءت تحت اسم (علم العقيدة) إذا سلمت تلك الأصول، لأن هذه الفروع الغيبية في الأغلب لا ينبني عليها عمل، بل في كثير من الأحيان يكون الخلاف في المسائل الفقهية أشد أثرا من الناحية العملية، فإن الخلاف مثلا في مسائل السياسة الشرعية ومسائل الاقتصاد وأحكام الزواج والطلاق وحكم الاستعانة بالكافر.. إلخ هي أكبر أثرا من الخلاف في (نبوة الخضر) واسم ملك الموت، أو تفسير العرش والكرسي وحديث (إن الله خلق آدم على صورته)

٨- إن هذه المنهجية الدقيقة مع كونها منهجية علمية فهي كذلك منهجية عملية، لأنها تحدد الأصول المحكمات التي ينبغي أن تجتمع عليها الأمة، ثم هي تدفع باتجاه العمل وتحمّل المسؤولية وفق المنظومة الإيمانية الكبرى (عبادة الله وحده، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم والحرص على اتباع سنّته، والاستعداد ليوم الحساب).

٩- كما أن هذه المنهجية تحمي حصوننا العقدية من أي اختراق خارجي، فكل أصل مبتدع يتم الترويج له على أنه أصل من أصول الدين، نقول: أين هو من كتاب ربنا؟ فإن لم تأت فيه آية صريحة فهو مرفوض، لأن الله تعالى لم يترك أصول الدين للروايات، بل نص عليها بما لا يدع المجال للشك أو الخلاف، فقال في التوحيد (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وقال في الرسالة والنبوة (محمد رسول الله) (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)

وهكذا في كل أصل من أصول الإيمان، وبهذا أقام الله تعالى الحجة على العباد.

وبناء على هذا فمن قال: إن من أصول الدين الاعتقاد بإمامة سيدنا علي وأحد عشر من نسله، وأن الله قد نص عليهم كما نص على نبوّة سيدنا محمد، فنقول: أما نبوة محمد فهذا النص أمامنا، وأما النص على علي وأبنائه فلم نجده في كتاب ربنا، فإن قالوا: إن هذا ثابت في الروايات، فنقول: لماذا كل أصول الدين نص عليها القرآن في المحكم من آياته إلا هذا الأصل يتركه إلى الروايات المختلفة في ألفاظها ودلالاتها؟

نعم لو قالوا: إنه وفق الروايات التي وصلتنا يترجح عندنا إمامة علي على غيره، فهنا نقول: وعند غيركم من الروايات والأدلة والشواهد ما يقدم (مبدأ الشورى والحكم الشوري) على (مبدأ الوصية والحكم السلالي) فهنا ينبغي أن تفتح الأبواب للحوار والنقاش العلمي.

أما القول بأن هذا أصل من أصول الدين يساوي؛ الإيمان بالله والإيمان برسوله، فهذا منزلق خطير أوقع بعضهم في إنكار أصل الإسلام وهو القرآن الكريم حيث قالوا صراحة بتحريفه

لأنهم لم يجدوا فيه آية واحدة تصرّح بالوصية لعلي وأولاده، فانظر إلى هذه المنهجية المقلوبة كيف جعلوا المسألة التي تحتاج إلى الدليل أصلا في إبطال مصدر الأدلة بل ومصدر الشرع كله.

والله يهدينا صراطه المستقيم ويبعدنا عن ضلالات أصحاب الجحيم

وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

Please follow and like us:
د. محمد عياش الكبيسي
مفكر وداعية اسلامي، دكتوراه في الفقه الاسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب