د. محمد عياش الكبيسي يكتب: لا نكفّر أهل القبلة

هذه المقولة التي وعدتكم بتناولها لأنها انتشرت هذه الأيام ربما بحسن نيّة ردّا على تمادي الجهلة في تكفير المسلمين لأدنى خلاف، وربما بسوء نيّة في محاولة لإدخال الدعوات الباطنية الهدامة في مسمّى الأمة وتوفير الغطاء الشرعي لها.
وسنتناول مناقشة هذه المقولة في النقاط الموجزة الآتية:
1- هذه المقولة قطعا ليست على إطلاقها، فالمنافقون كانوا يصلّون إلى قبلتنا، ولكن القرآن حكم عليهم بالكفر الصريح، قال في سورة المنافقون: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جُنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون. ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون).
2- المقولة مقتطعة، وهي بتمامها هكذا؛ (لا نكفّر أهل القبلة بذنب)، بمعنى أن من ثبت إسلامه لا يجوز إخراجه من الإسلام بذنب ارتكبه حتى لو كان هذا الذنب من الكبائر، وهذا موقف أهل السنّة في ردّهم على بعض الغلاة الذين كانوا يكفّرون بالذنوب، ومن نقلها مقتطعة من أهل العلم إنما نقلها لأن تتمتها معلومة ومشهورة.
3- إن الفيصل بين الكفر والإيمان لا يحدده الفقيه بمزاجه، وإنما لا بد من الاستناد إلى نص قاطع لا يحتمل التأويل والاجتهاد، ولذلك يجزم الإمام النووي بأن ضابط التكفير إنما هو إنكار معلوم من الدين بالضرورة، يعني مثلا من أنكر تحريم القرآن للربا وهو يعلم آية (وأحل الله البيع وحرّم الربا) فقد كفر لأنه مكذّب للقرآن وإن كان مصليّا، فما بالكم بمن يقول بتحريف القرآن؟
4- لقد حكم القرآن بالكفر على فئات من الناس، من ذلك أنه حكم على المستهزئ بآيات الله مع أنه كان من ضمن صفوف المسلمين (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم).
وحكم بالكفر على من لم يرض بحكم الله تعالى:(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
وحكم بنفي الإيمان عن كل من لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
وحكم بالكفر على من رفع مقام المخلوق إلى مقام الخالق بالشرك أو بالحلول، (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) وقال:(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه)، وهذه الآيات وإن كانت قد نزلت في النصارى، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن قال في أحد ما مثل هذا القول فهو كافر بلا شك.
5- نعم نحن بقدر ما يجب علينا أن ننكر الغلوّ في تكفير المسلمين لأدنى خلاف من قبل بعض الشباب الذين ربما ينقصهم العلم والورع، فإننا ينبغي أن ننكر على الطرف المقابل غلوّه في المرونة السياسة والثقافية التي لم تعد تفرّق بين مفهوم الإيمان ومفهوم الكفر، بل صاروا يروّجون لأهل الكفر والزندقة ويعدّون ذلك من متطلبات الرقي الثقافي والحنكة السياسية.
6- بقي عليّ أن أوضح الفرق بين التكفير كحكم قضائي على شخص معيّن، فهذا له شروطه مثل البيّنة والاستتابة وإقامة الحجة، وبين تكفير الفكرة المناقضة لثوابت الإسلام. فمعرفة الكفر وتمييزه عن الإيمان واجب على كل مسلم، يعني أن المسلم مثلا لابد أن يعرف الفرق بين التوحيد والشرك، وبين النبيّ الصادق والمدعي الكاذب، وهكذا، أما التكفير القضائي وتطبيق أحكامه العملية على المعيّن فهذا موكول إلى القضاء، إن وجد هناك قضاء.
7- وأخيرا فينبغي التنّبه إلى أن تمييز الكفر عن الإيمان في كل مفاصله إنما نقصد به حماية ديننا وتحصين أجيالنا وتقديم النصح للعالمين فلا نغشهم ولا نخدعهم، أما التعايش السلمي بين أبناء البلد الواحد، فهذا موضوع آخر، يعني أنا المسلم علي مثلا أن أعتقد أن القول بألوهية السيد المسيح هو كفر مناقض للإسلام، لكن هذا لا يعني أن أظلم هذا الإنسان الذي يقول بذلك، ولا أن أعلن الحرب الأهلية بين المسلمين والنصارى مثلا، والواقع يشهد على متانة السلم الأهلي بين الواضحين في تمايزهم العقدي أكثر من حالات المجاملات والتداخلات التي ربما تصل إلى حالات من الخداع والتضليل والنفاق المتبادل.