د. محمد عياش الكبيسي يكتب: وقفات علمية مع «ثاني اثنين»
١- لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم صديقه الأقدم وصاحبه الأقرب أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رفيقا له في أعظم رحلة في التاريخ، حيث انبنى عليها قيام دولة الإسلام وانتقال المسلمين من حالة الاستضعاف إلى حالة التمكين، وكل الفتوحات العظمى كفتح الشام والعراق ومصر إنما جاءت ثمرة من ثمار هذه الرحلة العظيمة.
ومعنى (ثاني اثنين) أي هما اثنان فقط (محمد وأبو بكر) لا ثالث لهما، فكل واحد منهما يصدق فيه هذا الوصف (ثاني اثنين).
أما المشاغبة بوجود ثالث وهو (ابن أريقط) فهي مشاغبة تافهة لا تستحق الرد، فابن أريقط هذا كان مشركا ولا علاقة له بمشروع الهجرة، وإنما هو مجرد دليل بأجرة، يدليهما على طريق غير الطريق المعتاد.
٢- لقد كانت الهجرة في غاية السريّة والكتمان، إضافة إلى التخطيط الدقيق، والمهام التي تكفل بها آل الصدّيق بالذات ومنهم ابنته أسماء لإنجاح الخطة والتي كان لها الدور المميز المعروف.
أما مشاغبة بعض (المعممين)؛ أن النبي واجه أبا بكر في الطريق (فأخذه معه) فهي مشاغبة تافهة أيضا، فالهجرة لم تكن سفرة قصيرة للنزهة أو للتجارة، لقد ترك أبو بكر بيته وبلدته مكة التي نشأ فيها وأمضى فيها عمره، ولم يعد إليها حتى توفاه الله تعالى في المدينة، فكيف يوافق أبو بكر على هذا بمجرد عرض طارئ؟ ثم ما هذا الارتجال الذي يتهمون النبي عليه الصلاة والسلام به في مثل هذا المشروع الخطير؟
٣- لما وصلت طلائع قريش إلى الغار شعر سيدنا الصدّيق بالحزن والقلق الشديد على النبي ومصير الدعوة التي يحملها، فطمأنه النبي بقوله (لا تحزن إن الله معنا).
ولا أدري كيف يستسيغ بعض (المعممين) أن يجعلوا هذه منقصة في حق أبي بكر؟ لأنه بنظرهم إنما كان يخاف على نفسه، ولو افترضنا ذلك فمِن مَن كان يخاف؟ أليس يخاف من المشركين؟ فلماذا كان يخاف منهم إذا كان هو واحدا منهم؟ كما يشير (شبّر) في تفسيره لهذه الآية -كما سيأتي-
إن هذا التخبّط لا يمكن أن يكون إلا عن غرض آخر لا علاقة له بدين ولا بعلم ولا بلغة.
٤- لقد حاول (شبّر)- عليه من الله ما يستحق- في تفسيره أن يجرّد هذه الآية من أية منقبة لأبي بكر فقال بالنص: (يقول لصاحبه، ولا مدح فيه، إذ قد يصحب المؤمن الكافر)
إنه حاول أن يخرج بالآية بعيدا عن سياقها، فالمؤمن قد يصحب الكافر نعم، في سفرة عارضة، أو رحلة تجارية أو علاجية، أما أن يؤسس معه مشروع الإسلام الكامل من الدعوة السرية ثم العلنية ثم الهجرة المباركة ثم المعارك والمشاهد كلها حتى آخر أيام حياته الدنيوية عليه الصلاة والسلام حيث اختاره إماما للمسلمين كافة في الصلاة فقال: (مروا أبا بكر فليصلّ بالناس)، فهل هذه الصحبة يا شبّر هي مثل الصحبة الواردة في قصة صاحب البستان (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب)؟
أعوذ بالله تعالى من عمى العقول وقسوة القلوب.
٥- لقد جعل القرآن الكريم الولاية وهي (المحبة والنصرة) مرتبطة بالهجرة ارتباطا مباشرا فقال: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) فهذا نص على وجوب ولاية ساداتنا المهاجرين، وعلى رأسهم من اختاره النبي رفيقا وحيدا له في هذه الهجرة (ثاني اثنين) رضي الله تعالى عنه وأرضاه وسائر الصحب الكرام.
٦- ومن أغرب ما قرأت لهؤلاء المساكين بعد أن أعيتهم الحيل؛ قالوا: إن حادثة الهجرة وقعت مبكرا، وأن الله امتدح المهاجرين ومنهم أبو بكر، لكن هذا ليس نصا في بقاء هذا المدح واستمراره.
وقد جهل هؤلاء أن سورة التوبة التي نزلت فيها آية (ثاني اثنين) كانت تعقيبا على آخر مواجهة في حياته عليه الصلاة والسلام (غزوة تبوك) في السنة التاسعة بعد الهجرة، فالقرآن نزل يذكّر المسلمين بتأييد الله تعالى لنبيه يوم أن لم يكن معه في تلك الرحلة إلا صاحب واحد، فكيف وأنتم اليوم جيوش مجيشة تواجهون الروم وغير الروم؟
٧- ثم نص القرآن أيضا على تزكية المشاركين في هذه المواجهة الأخيرة والتي نزلت بسببها سورة التوبة فقال القرآن: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) ثم عرض لقصة الثلاثة الذين تخلفوا، والذين شملهم بالتوبة أيضا بعد صدقهم في الندم على تخلفهم، وبكل تأكيد لم يكن أبو بكر واحدا منهم بل كان السابق في كل المشاهد.
٨- أخيرا فإن من أغرب الحماقات التي قرأتها، كانت حماقة السماوي الذي اتهم أبا بكر بالردة عن الإسلام، بينما قال عن المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر أنهم ثاروا طلبا بحق علي في الخلافة! لأنهم كانوا قد حضروا الوصية في غدير خم!
يعني أن المهاجرين والأنصار لم يفهموا هذه الوصية أو فهموها لكنهم تعمدوا مخالفتها لكن الذي فهمها والتزم بها إنما هو مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي..إلخ
لكن السماوي لم يجب على تساؤل طبيعي ومنطقي؛ ماذا كان موقف صاحب الوصية نفسه سيدنا علي من هؤلاء (الثوار المطالبين بحقه) لماذا خذلهم، وراح يبايع أبا بكر؟ أم أن عليا كان مكرها على هذه البيعة -كما يصرّح بعض علمائهم- فبايع ليأمن على حياته ثم يترك أنصاره (الثوار) تحصدهم سيوف المهاجرين والأنصار بإمامة أبي بكر وقيادة خالد بن الوليد؟
انظروا إلى الدس والطعن الخفي في شخصية سيدنا علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ولقد قالوا فيه مثل ذلك وأكثر حيث سكوته -حاشاه- عن كسر ضلع زوجته سيدتنا فاطمة بنت الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ورضي الله تعالى عنها وأرضاها. فانتظر حتى يأتي (أبو لؤلؤة المجوسي) لينصفها ويأخذ بثأرها!!
إن سورة التوبة التي سماها ابن عباس (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، وهي لا زالت تفضحهم إلى يومنا هذا، حيث تذكر هذه السورة أهم خبائث المنافقين ومنها ابتغاء الفتنة ولمز الصحابة والطعن بهم، وذلك مثل قوله تعالى: (يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) و (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون) و (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين).
وصلى الله وسلم على الحبيب المصطفى وآله وصحابته من المهاجرين والأنصار وكل من أحبهم جميعا وسار على نهجهم إلى يوم الدين.