بحوث ودراسات

د. محمود خليل يكتب: العلامة أنور الجندي.. رائد الأصالة المعاصرة

العلامة الراحل أنور الجندي (1917-2002)، رائد الأصالة الفكرية المعاصرة، وأمين سجل الثقافة الإسلامية، وقائد الكتيبة المؤمنة التي وقفت لجحافل الغزو الفكري بالمرصاد.. فكشفت عوار المتغربين، وفضحت العملاء، وردت كيد المتآمرين في نحورهم.. على مدى سبعين عامًا كاملة.. قضاها الراحل العظيم في الخندق الأول، رغم القيود الصارمة التي فرضت عليه في كل العهود.. ملكية كانت.. أم جمهورية

ولكن صوته العميق وعلمه الوثيق، ونتاجه الضخم، وفكره الموسوعي.. قد أزاح كل هذه العراقيل، وبقي مشروعه الذي شيده على أسس من الإيمان والعمل الصالح، لبناء منهج جديد للتعليم والفكر والتراث والتاريخ والثقافة، على قاعدة راسخة من الأصالة والانتماء

وثبتت تجربته العريضة في وجه الأعاصير العاتية التي اجتاحت العالم الإسلامي في هذه الفترة..

 ولازالت حاجتنا إليها تشتد بين يوم وآخر

كان.. وسيبقي أنور الجندي.. حياة وعطاء ونتاجًا.. معلمة من معالم الدعوة والحركة والثقافة الإسلامية في العصر الحديث.

 ولد أنور الجندي -رحمة الله عليه- 1917 في مدينة ديروط بمحافظة أسيوط

وقد هيأ الله له جوًّا إيمانيًّا خالصًا، أحاط به من كل جانب، فوالده كان تاجرًا وطنيًّا حفيًّا بالجهاد والمجاهدين، وكان مثقفًا متابعًا لمجريات الأحداث في عهده، وعن طريق جده.. تعرف الجندي إلى الزعيم (عبد الكريم الخطابي) زعيم الريف المغربي، وغيره من القادة المسلمين الثوار الأحرار، وسماه والده «أنور» تيمنًا بالقائد التركي أنور باشا وإعجابًا بجهاده الذي كان يخطف الأبصار حينئذ.. وكان جده قاضيًا شرعيًا يشتغل بتحقيق التراث ويخط المدونات.. وكان يقتني نفائس الكتب..

ولذلك ولد الجندي كبيرًا.. وفي بواكير شبابه، بزغ نبته مباركًا بإذن ربه ليسابق الرافعي والزيات والمنفلوطي وزكي مبارك.. وغيرهم من أرباب البيان العربي الحديث..

 وفي مجلة «أبولو» نشر بحثًا عن شاعر النيل حافظ إبراهيم 1922 ولما يتجاوز عمره سبعة عشر عامًا.. حيث كانت ديروط تفاخر بشاعر النيل الذي ولد على ضفافها.. حيث أعلنت «أبولو» عن مسابقة لإصدار عدد خاص عن حافظ إبراهيم جرد الجندي قلمه وخطّ مقاله وكان فاتحة واسعة للنشر فيما بعد في البلاغ وكوكب الشرق والسياسة الأسبوعية والرسالة وغيرها من كبريات الجرائد والمجلات، وكان الجندي رحمه الله يفخر بأنه نشر في «أبولو» في ذلك السن.

 وقد شاءت ظروف والده أن يلتحق بالعمل في بنك مصر من بواكير شبابه، بعد أن أنهى دراسته التجارية المتوسطة، ثم تابع في المساء دراساته الجامعية للتجارة والاقتصاد وأعمال المصارف وإدارة الأعمال، وكذلك واصل دراسة اللغة الإنجليزية بالجامعة الأمريكية لتتبع الزيغ والضلال من قبل المستشرقين والمستغربين، وكشف شبهاتهم حول

الإسلام والرد عليها وكأن الرجل قد هيأه الله لدوره الذي ناطه به.. فقد عاف جميع المناصب، وتنزه عن كل الإغراءات التي راوده بها الجميع في الداخل والخارج.. وظل طوال عمره المبارك «85» عامًا حارسًا أمينًا ومدافعًا رصينًا عن الإسلام وحده، ينفي عنه تحريف الغاليين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.. فكان في بواكير صباه يتردد من بيت علم إلى بيت علم.. فإذا غادر مكتبة داره شرقًا.. فإلى عيادة الدكتور أمين إبراهيم سائلا عن مقدمة ابن خلدون، وإذا اتجه جنوبًا، فإلى بيت الشيخ طه، سائلاً عن الأحياء للغزالي، فإذا ذهب غربًا.. فإلى بيت الشيخ بكر ليقرأ لديه البخاري

وإذا اتجه شمالاً.. فإلى مسجد القرية.. حتى دكان القرية.. كان مملوكًا للأستاذ محمد إبراهيم صاحب جريدة «الأماني القومية» فأحاله إلى محل للفكر والثقافة، إلى جانب السلع والبضائع.

 إلى ما سبق فإن الأستاذ العلامة أنور الجندي، لم يرزق إلا بابنة واحدة هي السيدة الفاضلة «فايزة» أم عبد الله، التي تزوجت في شبابها عام 1969 من الأستاذ محمد سيد أحمد عبد النبي ابن شقيق وزير العدل الأسبق المستشار فخري عبد النبي، مما وفر له شبه خلوة قضاها جميعًا في التنقيب والبحث والدراسة والاستقصاء.. حتى إنه يقول: «قرأت بطاقات دار الكتب وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها، وراجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رءوس موضوعات، وراجعت الأهرام على مدى عشرين عامًا كاملة.. وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من عشرات الصحف والمجلات والدوريات التي عرفتها في بلادنا خلال هذا القرن.. كل ذلك من أجل التعرف على موضوع معين في وقت ما، لكي أكون قديرًا في الكتابة عنه».

 وقد أدى ذلك إلى أن يكون للعلامة الفذ أنور الجندي موقعًا محددًا بدار الكتب المصرية، لا يغيب عنه إلا لمامًا، قرأ به آلاف الكتب، ويقول: «لقد اضطررت وأنا أعد الموسوعة الإسلامية العربية إلى أن تكون لي قائمة تضم هذه الأرقام.. ومن ثم عكفت على دراسة ما يزيد على نصف مليون بطاقة، أخذت من الوقت أكثر من خمسة أشهر، راجعت فيها بطاقات يحتويها أكثر من 180 صندوقًا، وأعددت من خلال ذلك مجلدًا يحتوي أكثر من خمسة آلاف كتاب، بالإضافة إلى الفهارس الضخمة للصحف والمجلات التي صدرت منذ عام 1871م حتى اليوم».

أرأيت أي رجل كان أنور الجندي؟!

 لقد تأهل فكريًّا وتراثيًّا بزاد قل أن يوجد عند أحد من أنظاره على امتداد الرقعة الإسلامية في أرض الله… ومن ثمَّ كان حقيقًا بالانتصارات الكبرى التي حققها في حقول الثقافة الإسلامية والاستشراق والغزو الفكري.. وكان جديرًا بنسف مشاريع الدجل التي أزاغت أبصار الأمة حينًا من الدهر، خلال كل أطواره الفكرية التي عاشها من (1940-1950) ناقدًا لأحوال المجتمع ومن (1950-1964) معالجًا للواقع ومن (1964- إلى آخر يوم في حياته) مصححًا للمفاهيم كاشفًا للحقائق الخطيرة، بعد ازدهار الشيوعية حينًا، والرأسمالية حينًا آخر.. إلى النظام العالمي الجديد وفجور العولمة المتجددة.

الجندي قلعة لا تلين

 يقول العلامة الراحل حين سئل: من أنت؟

 أنا محامٍ في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة، منذ رفع هذه القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عامًا للناس، حيث أعُدُّ لها الدفوع وأقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى، وعهد على بيع النفس لله والجنة – سلعة الله الغالية – هي الثمن لهذا التكليف (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).

 ويمثل عام 1940 معلمًا فاصلاً في حياة الأستاذ الكبير أنور الجندي بعد قراءته لكتاب ” وجهة الإسلام ” لمجموعة من المستشرقين فلفت نظره بشدة إلى التحدي للإسلام وحجم مؤامرة التغريب.. ويصف الجندي ذلك قائلاً: «وبدأت أقف في الصف، فهذا قلمي وعدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي، متتبعًا هذه الغزوة التغريبية في مدها وجزرها وفي تحولها وتطورها»..

وكان لقاء الهدى والنور بالإمام الشهيد حسن البنا في ذلك العهد المبكر، أهم معلم فارق في حياة أنور الجندي حيث يقول: رغم إحساسي بمسئوليتي الكبرى تجاه تراثنا وعقيدتنا ولغتنا، وبالرغم من كل ما كتبت وسطرت، كانت دعوة الإمام الشهيد حسن البنا إلى بناء المجتمع الإسلامي على منهج القرآن، هي الطريق الذي أخذته وآمنت به، حيث وجدت حلاً لكل الأسئلة التي كانت غُلًّا على مشاعري، وكان ذلك مقدمة لسفري إلى القاهرة للعمل في الصحافة الإسلامية منذ عام 1946.. حيث كان يقوم أنور الجندي من المركز العام للإخوان المسلمين، بإصدار سلسلة (رسائل تاريخ الفكرة الإسلامية) (مناهجها وقواعدها وغايتها ووسائلها وكان يصدرها في الأسبوع الأول من كل شهر، فأصدر منها أكثر من عشرين كتابًا.. لعل أهمها: «البيت الإسلامي» و «الإسلام يزحف» و«الحضارة الاستعمارية تنهار» و«قضايا الأقطار الإسلامية» و«مصر تتحرر من قيودها» و«الشخصية الإسلامية» و«القرآن دستور الإنسانية» و«مصحف وسيف» و«بعث الحركة الإسلامية» و«الإخوان المسلمون في ميزان الحق»..

 وقد وقف أنور الجندي طويلاً أمام شخصية الإمام الشهيد «حسن البنا»، فتناول هذه الشخصية الفريدة في عدة جوانب، حيث كان يؤمن بيقين أن «البنا» نموذج من النماذج النادرة التي عرفها تاريخ الإسلام الطويل، منذ أرسل الله سبحانه وتعالى برسالته الخالدة، محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهو من عقد هؤلاء الدعاة الأبرار والمصلحين الربانيين الذي عرفتهم الأمة الإسلامية فصححوا مسيرتها وغيروا أعرافها، وطبعوها بطابع الحق وأعادوها إلى الصراط المستقيم.. هؤلاء الذين يظهرون فجأة، فيملئون الدنيا علمًا وعملاً، ثم يختفون فجأة بعد أن يكونوا قد أحدثوا دويًّا عاليًا في آذان الدهر وأسماع الناس.. فهم يبرزون فوق الأحداث، ولا يخضعون لمقررات الوراثة، ولا يستمدون مقدرتهم من بيئة أو أسرة.. وإنما هي صبغة الله، ومظهر إرادته البالغة.

 وقد تناول الجندي شخصية هذا المصلح العظيم في سياق دعوته وفكرته، مسلطًا الضوء على منهجها الإصلاحي في «الإخوان المسلمون في ميزان الحق» عام 1946، و«قائد الدعوة وربان السفينة» 1946، و«الرجل القرآني» 1947، و«قائد الدعوة حياة رجل وتاريخ مدرسة» 1946، مختتمًا رحلته 1978ط، والطبعة الثانية المزيدة عام 2000م.. وظل الجندي قلمًا أمينًا صادقًا، ومدافعًا قويًّا جسورًا، وقلعة منيعة حصينة لهذه الدعوة المباركة التي يقول فيها: ” لقد حولتني من هدف إلى هدف، فبعد أن كنت أسعى إلى أضواء القاهرة، إذا بي أسعى إلى أضواء الإسلام، فقد صهرتني وغيرت وجهتي، وأعادت تشكيل نفسي بعد أن اكتشفت مؤامرة التغريب التي رسمها «هاملتون جب» في كتابة «وجهة الإسلام» وكنت أبحث عن مواجهتها من خلال وجهة حاسمة.

 وقبيل ثورة يوليو 1952م اعتقل المفكر الكبير أنور الجندي لمدة عام كامل، وفرضت عليه طول العهد الناصري دائرة من التضييق والتعتيم والحصار، ولكن شجرته الميمونة كانت عميقة الجذور باسقة الفروع، خصيبة الجنى والثمار… فاستعصت على كل عوامل الحظر والإعاقة.. واستطاع بعد فترة من العنت الشديد أن يعود للكتابة عن التغريب سنة 1963 بمجلة «منبر الإسلام» وكان رضوان الله عليه مستوعبًا لذلك جيدًا، حيث يقول: «ولقد كان من إيماني أن يكون هناك صوت متصل، وإن لم يكن مرتفعًا بالقدر الكافي ليقول كلمة الإسلام».. فالاستمرارية والتواصل كان أهم سمة تميز العملاق الزاهد المتجرد أنور الجندي، ولو تحت أي اسم آخر، فلم يكن مطلوبًا من أصحاب الدعوة أن يصمتوا جميعًا وراء الأسوار.. ومن خلال هذا.. الصوت الهادي العميق استطاع الجندي أن يدكَّ قلاعًا حصَّنتها الشياطين، وأن يذود حجافل دججتها الفرعونية الفاجرة أو استأجرتها الصليبية الماكرة، أو استحمرتها الصهيونية اللعينة.. وواجه هذه الجيوش الزاحفة على الإسلام بقوة وشراسة واختيال.. فردَّها جميعًا مذءومة مدحورة.. بادئًا بعميد الأدب العربي د. طه حسين، حيث رأى فيه الجندي «قمة أطروحة التغريب وأقوى معاقلها، ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه، هي من الأعمال المحررة للفكر الإسلامي من التبعية» وعلى هذا الطريق الصعب المدجج بالألغام والأخطار.. قام أنور الجندي بتعرية «الأكابر» المزعومين في قافلة الثقافة العربية والإسلامية من أصحاب الفكر المغشوش، من أمثال لطفي السيد وقاسم أمين وجورجي زيدان وساطع الحصري والحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود، حيث كشفهم واحدًا بعد الآخر، ووضع تلامذتهم من أمثال لويس عوض وغالي شكري وأشباههم في موقف صعب، بعد أن حطم آلهتهم، وألقى بهم في مقالب النفايات، وأحال مشاريعهم إلى الاستيداع المبكر

وهم أحياء يرزقون..

وعلى الطريق نفسه أنصف المظاليم من السلف والخلف، من أمثال ابن تيمية وابن حزم وابن رشد وابن خلدون من مصححي المفاهيم، كما أقام الموازين العادلة لنوابغ الإسلام المعاصرين من أمثال فريد وجدي والثعالبي وباكثير والرافعي وسيد قطب، مترجمًا للأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي.. فأخرج في هذه المعركة الضخمة عشرات الكتب أهمها «طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام» «محاكمة فكر طه حسين» و«الوجه الآخر لطه حسين» و«هل غيَّر الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة».. فوضع طه حسين وأمثاله في مواضعهم الصحيحة أمام محكمة الفكر والتاريخ.

سقوط العلمانية

 ولقد آمن العلَّامة أنور الجندي إيمانًا راسخًا منذ طفولته، أن المستقبل لهذا الدين، حيث لفت نظره بشدة، مقال للدكتور محمد حسين هيكل نشره بالهلال عام 1926 تحت عنوان «النور الجديد أيّان يكون مطلعه» تنبأ فيه بالصحوة الإسلامية التي سيشرق نورها على العالمين، بعد أن فقدت الحضارة الغربية هدفها الروحي، وغرقت في المادية، وكان ذلك بعد قليل من سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924، والجندي حينئذ ابن العاشرة أو دونها بقليل، والمسلمون يتطلعون إلى أفق جديد، ربما تمثل في الدعوة إلى «كومنولث» إسلامي كما دعا إلى ذلك الدكتور عبد الرازق السنهوري، أو الانتقال إلى الفكرة الإسلامية الجامعة كما دعا إليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أو الدعوة الإسلامية التي تبني جيلاً من الشباب المهم، يحمل لواء العمل لهذا الدين بصدق ونظام وولاء، وهو ما نادى به الشهيد حسن البنا.. حيث يقول مفكرنا العملاق: «وكان لقائي بالبنا.. نقطة التحول الحقيقية في وجهتي وإجابة على تساؤلاتي عن فكرة التغريب، ولذلك فقد اتجهت منذ اليوم الأول إلى دراسة الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي». فكشفت القناع أمام الأجيال المخدرة بالبريق الغربي المفرغ من المفهوم الإسلامي الصحيح.

 وظلت قذائف الجندي تتوالى على دارون وأدلر ودوركايم وماركس وفرويد وسارتر، فأحالت بناءهم قاعًا صفصفًا، وهو يقف في وجههم أمة شامخة في قامته الفكرية الفريدة، وتواضعه الفذّ العجيب، وتجرده الذي ليس له نظير، فقدم للإسلام والمسلمين موسوعته الخالدة ” مقدمات العلوم والمناهج.. محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل ” في عشرة أجزاء ضخمة من القطع الكبير.. وهو ما تعجز عن إنجازه اليوم عشرات والمجامع والهيئات والجامعات، وتقصر دونه عشرات الميزانيات والخطط وجداول الأعمال ومئات المؤتمرات والمنتديات واللقاءات.. قدم الجندي ذلك راضيًا متواضعًا محتسبًا، متواريًا عن الأضواء واضعًا نفسه وموهبته الضخمة وعقليته الموسوعية صمام أمان لسدِّ الفجوة الضخمة بين الإسلام ومفاهيم العصر، انتقالاً منه من التبعية إلى الأصالة، ومن التغريب إلى الرشد الفكري، ومن الاستسلام إلى الإسلام.. وهو ما قصرت عنه دراسات المعاهد والجامعات وبرامج التربية والتعليم، موضحًا كيف قاوم مفهوم التوحيد كل محاولات الاحتواء أو السيطرة، بما مكنه من بناء «منهج السنة أو الجماعة» في التاريخ والتأريخ والتفسير الإسلامي والفلسفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد والفن تأصيلاً لليقظة وترشيدًا للصحوة، وتصحيحًا للمفاهيم بالعودة إلى المنابع مؤسسًا للمدرسة الإسلامية على طريق الله ومنهج القرآن، في علوم النفس والأخلاق والاجتماع والنظم الإدارية والعلمية.. فوصل الله به انقطاع الأمة الحضاري الذي أرادته الصهيونية اللعينة من «الأتاتوركية» و«الماركسية» و«الشيوعية» و«العلمانية» المنسحقين على أعتاب الردة والخيانة فاحترقوا واحدًا بعد الآخر في اضوائه التي سلطها عليهم، فأنصف منهم السلطان عبد الحميد، واستنقذ من بين أيديهم عشرات القمم التي حاولوا استلابها لحسابهم من الرجال والنساء.. حيث وضع الحقائق المضيئة في وجه الشبهات المثارة، فتحطمت خناجرهم المسمومة، وانكشف زيفهم، وانقشع غبارهم.. فمنهم من تولى ومنهم من كفر..

 ولقد كان أنور الجندي مؤمنًا أشد الإيمان بحاجة الساحة إليه، ومن ثَمَّ تخليص «دماغه» لهذا الرباط الجليل!! فحرّر نفسه من كل القيود، إلا قيد الفكر والإيمان..

فحرر نفسه من قيد العمل الوظيفي الذي عمل به لفترة مؤقتة أول حياته.. وحرر نفسه من الانغماس في عالم الصحافة بحرفيته واستغراقه.. وحرر نفسه من الاسترقاق المالي، فكان الزهد شارته والتجرد أمارته.. وحرر نفسه من السفر شرقًا وغربًا مهما كان الإغراء والبريق.. إلا لندوة أو مؤتمر لخدمة الإسلام، وحرر نفسه من أضواء الشهرة وملاحقات الإعلام الأخاذ..

وانطلق في عمله الشاقّ الطويل، وأمضى حياته لا يعمل إلا لغاية واحدة.. هي البحث عن المعرفة الأصيلة، والتماس شواطئ النجاة لأمته التي أوشكت على الغرق، ناهضًا مع كوكبة من المخلصين لإنقاذها من هاوية التمزق والضياع.. فقدم أعظم مشروع فكري إسلامي متكامل في القرن العشرين.. بناه على أسلوب علمي صحيح، ورحابه صدر، وسعة أفقه، وتصورٍ عالٍ لحقائق الإسلام، واضعًا نصب عينيه مهمة قادته ومفكريه في اقتحام العقبات، واحتواء الأجيال، وصهر العواطف وتحصينها من الشطط والانحراف، والانجراف إلى التعصب والتطرف، فسد بذلك الطريق أمام الخرّاصين من خصوم الإسلام، الذين يقفون له ولأهله بالمرصاد، يحسبون كل صيحة عليهم.

 آمن العملاق أنور الجندي أن أدوات الكاتب ليس في الأقلام والمحابر والأوراق كما يصنع الكثير من مسودي الصفحات.. بل رأى أن أدوات الكاتب الحقيقية هي القراءة والتجربة والمصادر والمراجع التي تمده بالمضمون وتقدم له المحصلة الواسعة من كشف الغوامض وانطلاق الحقائق لتشق طريقها في عوالم الجهل والجهالة، لكسر طوق الحصار حول الإسلام فأفنى عمره المبارك مفسرا إسلاميًّا عظيمًا لمسيرة التاريخ والحضارة، في رحلة ملؤها المشقة والمعاناة بين أضابير الكتب، وملفات الصحف التي تآكلت أطرافها، يلمّ أطراف الحقائق المترامية، ليصنع منها حقيقة واحدة كبرى في عوالم الأدب والتاريخ والفكر والسياسة والاقتصاد، ينتظمها مشروعه الفكري الضخم،

 ويؤسس للحقائق التالية:

(1) الانتقال بالأمة من الرقاد إلى الإحياء ومن اليقظة الإسلامية إلى الأصالة والرشد.

(2) إبراز ذاتية الإسلام وتميزه وتكامل مفاهيمه المعرفية في الإنسان والمجتمع.

(3) الكشف عن زيف النظرات والنظريات التغريبية الوافدة، في منابتها الفاسدة وأسواقها الكاسدة، وصياغة نظريات إسلامية بديلة، استجابة لتحديات المشروع الإسلامي الأصيل في معارك التحول الكبرى.

(4) تصحيح الأخطاء، وتصفية الخلافات حول مسيرة تاريخنا الإسلامي، وكشف كل مؤامرات الاختراق والتغلغل، ومعالجة بؤر الضعف والتخلف وتنقية المسيرة الإسلامية من الأوشاب والشوائب.

(5) رصد الحركة الإسلامية في امتدادها التاريخي، بالربط العلمي المتين بين الوسائل والغابات، والجمع الأمين بين المنهج والتطبيق.

(6) بناء مشروع ضخم لأسلمة الفكر والعلوم والفنون والآداب، والانتقال بأربعة أجيال كاملة من التبعية والتحلل، إلى الخصوصية والأصالة.

فاستكمل الراحل العظيم أنور الجندي رحلة الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وفريد وجدي ومحب الدين الخطيب وشكيب أرسلان ومصطفى صبري ومحمد محمد حسين وحسن البنا ومحمد الغزالي…

وعلى خطاه يسير اليوم د. محمد عمارة ود. جمال عبد الهادي ود. عبد الحليم عويس ود. عماد الدين خليل ومحمد قطب والعلاّمة القرضاوي.. في المشروع الإسلامي الكبير لبناء معالم المسيرة الإسلامية في ظل مخططات الصليبية والصهيونية والنظام العالمي الجديد.

 ولقد مثلت مؤلفات أنور الجندي وبحوثه الأصيلة مرجعًا رئيسيًّا لكل من كتب في شئون الفكر الإسلامي المعاصر، أو عالج إشكاليات الغزو الفكري بجذوره وأبعاده وخططه وأهدافه، وكانت مكتبته منارًا هاديًا لكل من قلب صفحات التراث من أطرافه إلى أطرافه.. فكان الجندي بحق؛ معلمة فريدة للتراث والأصالة والمعاصرة، وكم هي الرسائل الجامعية والمؤلفات العلمية ورسائل الماجستير والدكتوراه التي نمت تحت عينيه وبين يديه، وكم هي البحوث التي كانت مراجعه ومراجعاته زادًا لها ورفدًا لأصحابها، ولعل آخرها رسالة الماجستير للباحث عمر أبو سلامة بكلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة بقسم الأديان والمذاهب حول «جهود الأستاذ أنور الجندي في الدفاع عن الإسلام ضد التبشير والاستشراق والتغريب» ورسالة الباحث الهندي «بوايان كونان أبو بكر محمد» رئيس الجمعية الخيرية للثقافة والعلوم بكيرالا بالهند..

قَبَسٌ من أئمة السلف

 ولا يستطيع مفكر معاصر أيًّا كان موقعه الفكري أن ينكر أن الجندي كان صاحب يدٍ عليه في تشكيله وتكوينه الثقافي، كما أنه لا يستطيع أي مثقف أو كاتب أو باحث أن يشغب على ريادة الجندي أو إمامته لمفكري العصر في بابه.. وكما كنا نعلم جميعًا أن الرجل سهل ميسورٌ، إِلْفٌ مألوف يتسامح مع الجميع، ويعطي الجميع من واسع معرفته ويفتح باب داره لطلاب العلم من كل مكان.. وفي ندوته كنا نجد لكل سؤال جوابًا، ولكل قضية حل.. فهو الرقم الذي لا يمكنه تجاوزه أبدًا.

 وللتاريخ نقول: «إن أنور الجندي كان نموذجًا فريدًا يعيد إلى عصرنا أئمة السلف الصالح».. فقد كان نسيجًا وحده في تواضعه وتجرده وزهده.. قال لابنته (أم عبد الله) قبيل رحيله: تعلمين أن لي مئات الكتب والمؤلفات عند الناشرين في الشرق والغرب.. فإياك أن تمدي يدك لأحدهم لطلب شيءٍ من المال.. فمن أعطاك منه شيئًا فخذيه وتنفَّلي منه وتصدَّقي ما شئت! ومن كفَّ يده وأنكر حقي فتصدقي عليه!

وتروي «أم عبد الله» فتقول: لقد عاهد والدي نفسه منذ وعيتُ الحياة، ألا يكتب كلمة، أو يأكل لقمة إلا هو على وضوء! ولعل هذا يذكرنا بابن جرير الطبري الذي أوصى قبيل رحيله بأن يُسَخَّنَ ماء غسله بعد موته من برايات أقلامه، وكان يجمعها في أكياس.. فكفت تلك البريات تسخين ماء الغسل ووضوء المغسلين.. ذلك ليشهد له علمه، ويغسله من أدرانه، وليكون القلم مجاهدًا في الدنيا وشاهدًا في الآخرة.. ونحسب أن أنور الجندي واحدًا من هذه الصفوة المختارة فالله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.

 وكان الراحل العظيم ينفر بطبعه من المدح والمبالغات التي تعجّ بها حياتنا قديمًا وحديثًا، ويعُدُّ ذلك واحدًا من أهم أمراض الأمة، ويرى أنه لا قيام لأمتنا إلا بشفائها منها، حيث كان يرى أن مشواره الجبار، الذي قطعه حسبة لوجه الله تعالى، كان مفروضًا عليه.

 حقًّا وصدقًا.. كان أنور الجندي -بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء- دائرة معارف إسلامية متحركة، يخشاه أعداء الفكرة الإسلامية في كل مكان، حتى قضى نحبه مساء يوم الاثنين 12 من ذي القعدة 1422هـ الموافق 28 يناير 2002م راضيًا مرضيا

* اشترك في تشييعه وعزائه أربعة أجيال.. جيله من أبناء الثمانين وما حولها وهو جيل الرواد، وجيل التابعين من أبناء الستين، وجيل الشباب من أبناء الثلاثين والأربعين.. حتى أبناء الخامسة عشرة وما تحتها، قد شاركوا في العزاء المهيب الذي ضاق به ميدان «عثمان محرم» بالهرم بالجيزة.. فقد امتد فكر «الجندي» من إخوانه إلى أبناء أحفاده..

 وللأمانة نذكر أن فقيد الإسلام والمسلمين الجليل الراحل.. كان دائم الترديد في ساعات الاحتضار: بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. ثم ردد بصوت ملؤه الإيمان والرضى.. والثقة فيما عند الله: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. أنا أنور الجندي.. جئت إليك من صعيد مصر.. فتقبلني فيمن معك».

رضي الله عن مَعْلَمة الإسلام المعاصرة.. ورائد الأصالة الفكرية الأمين وعوَّض أمته عنه خيرًا.. وأنزله منازل الأبرار وأعلى قدره في الصادقين.

د. محمود خليل

مدير عام إذاعة القرآن الكريم الأسبق - مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى