في ظل الفيض المعلوماتي والغزو السبراني المعاصر.. المتوحش بلا حد ولا قيد.. وما يقوم به من هتك قسري لحرمة العقول، واغتيال عمدي لطهارة الفكر والفطرة..
أضحي المشاهد العادي، يعاني أشد المعاناة، من قسوة ما أسماه المفكر الفيلسوف (ناعوم تشومسكي).. (بصناعة الموافقة)
Industry Apporval وهو ما يعني قدرة هذا الذكاء الاصطناعي، على إدارة مصانع قهرية للعلاقات العامة، لاجتياح تراتبيات الأفكار والأخبار والأذهان، وإنتاج دهماء بكماء عمياء، من عبيد الموافقة والطواعية…
وما على المشاهد في هذه الحالة، إلاّ أن يتلقى الدعاية الفاجرة بالقبول والاستسلام.. بدلاً من أن يجد نفسه في غرف التعذيب المعلوماتي.. من خلال عمليات القصف والمحاصرة والاستهداف والاختراق التي لا تنتهي!
فإن الوسائل الإعلامية لا تكتفي بنقل الواقع، بل تعيد تشكيله وتصديره
فالإعلام ليس ناقلاً للحقائق، بل صانعاً لها، وللرأي العام من ورائها.. حيث يتم تصنيعه، وتصنيع الناس من خلاله.. بما يخدم الأقوياء، ويقوم -قهراً واستلاباً- على الانتظام التلقائي في مصانع الموافقة
وهو ما حذّر منه الفيلسوف الكبير (رجاء جارودي).. من قبل، عند حديثه عن صناعه السياسات الكبرى.. التي اختصرها في كيفية إعداد شعب معين، إعداداً جيداً، للتأهل للعبودية، عن طريق إدارة السياسة الصفرية، المهيمنة عليه من الداخل والخارج، عبر صناعة وتوزيع ودعم المعلومات، من خلال أطر السيطرة والإحكام، ونظم الاختراق والتطويق
ومن أوائل من نظروا لهذا الاغتيال الزاحف، عالم الاجتماع الألماني (سيرجي تشاخونتين) الذي أشار منذ عام 1939 إلى هذا الاجتياح الجارف، تحت هذا العنوان المزعج “اغتصاب الجماهير”.. عبر تخدير اللاوعي القادم، ليحل محل الوعي القائم.. ساخرا من (جوزيف جوبلز) وزير دعاية (هتلر) الذي كان يأمر الشعب بكل شدة، أن يفتحوا النوافذ، وأن يرفعوا أصوات المذياع لأقصي درجة، لكي تستطيع الدعاية الصفراء التي يبثها عبر الراديو، الوصول قهراً وجبراً إلى كل مواطن ألماني
لذا.. فإن المشاهد العادي في ظل هذه القرية الإلكترونية الصغيرة الضيقة، المحكومة بصناعة الواقع المفروض.. قد غدا يحيا سجناً كبيراً، محدود الإطار والأسوار
وأضحى ذلك المشاهد في أمس الحاجة إلى رسالة توعوية راهنة.. تنقذ ما تبقي لديه من إنسانية وجوده على ظهر الأرض.. وتأخذ بيديه إلى أولى خطوات التحرر من هذا الرق الإعلامي الأثيم.. وهذا الاغتيال المعنوي المهين.. وهذا الاحتلال المعلوماتي المدفوع الأجر مسبقا
وانتشاله عبر قوارب النجاة.. بما يحتم عليه المبادرة إلى تلقي قبلة الحياة، والالقاء بنفسه بالكلية.. كمادة خام، ضمن مصانع إعداد وصياغة وصناعة المشاهد الناقد
وفي عصر زحام الشاشات، وتنافس الوسائط، وتوحش عمليات التزييف والتضليل
أصبح التأسيس لمشاهدة نقدية، تحليلية، واعية، مسؤولة.. هو البديل الوقائي المسعف، للانعتاق من حروب الاستسلام والتخدير، والتعافي من مشافي التلقي السلبي، والاستجابات المسبقة.. المعدة سلفا، في ظل هذا الاغتيال العمدي، والاسترقاق القهري، المدجن، والمنظم، والمحمي تكنولوجيا وسياسياً
هذا الانعتاق.. يبدأ بتحفيز القدرة على المشاركة التضمينية الفعالة، واتخاذ مواقف انتقائية راشدة لذلك المشاهد، بانتقاله من مرحله التلقي والتأثر، باعتباره الحلقة الأضعف في هذه السلسلة الإعلامية (التكنو سياسية).. إلى مرحلة النقد والتأثير، باعتباره الحلقة الأقوى في هذه السلسلة المجتاحة المتوغلة.. وذلك..
بتزويده بمهارات التعامل مع وسائل الإعلام
والانتقال من حالة المشاهد الخامل، إلى خانة الناقد الفاعل
ومن العقل الراكد، إلى المشاهد الراشد
وذلك بالتحقق من مصادر المعلومات، وفهم السياقات، وتحليل الرؤى
والوقوف على الخلفيات المتضمنة في الرسالة الإعلامية، المؤطرة والمشفرة
وفهم ومعرفة من يقف وراءها… تمويلاً وتشغيلاً
فإذا ما جاءت إليك سلعة.. مجانية جميلة لحد باب البيت؟! فاعلم أنك أنت السلعة المقصودة!
هذه العملية الإعلامية، هي ما عرفه (باك) Bukingham
سنه 2003، بأنه القدرة على الوصول إلى الوسائل الإعلامية، وتحليل محتواها، وتقييمه، والمشاركة الفعالة فيه، في كتابه الهام (Media Eduication)
وما أشار إليه بقسوة (بوتير) Potter باعتباره…محواً للأمية الإعلامية Media illiteracy 2012 .
فإذا كان الإعلام يقوم بالأساس الأول.. بالإبلاغ عن الحقيقة قدر الإمكان، فإن إعلام الحرب السيبرانية المعاصرة، قد أضحى همه الشاغل، هو تحقيق النصر بلا حرب؟! عبر العمليات المركبة للذكاء الاصطناعي، والاغتيال اللامحدود للإنسان والزمان والمكان!!
مما جعلنا – على الرغم منا – نحيا متلازمة ما بعد الصدمة، نتيجةً لمستويات التضليل والاغتيال الإعلامي، الغير مسبوق
بما يقتضي.. الانتقال العاجل بالمشاهد، من قاعات الذكاء الاصطناعي.. intelligence Artificial إلى ضرورة التأهل بمنظومة الذكاءات المتعددة A multiple intelligence
حيث لم تعد قدرات الذكاء الحالية، قادرة على عتق المشاهد العادي، والسعي في تحريره من هذا العدوان السيبراني الأثيم.. الذي يمثل عقلاً هائلاً بلا ضمير، وحرباً كونية لاجتياح العلم للقيمة، والتقنية والبرمجة للذات والإنسان.. الذي كلفه ربه منذ خلقه بقوله: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»