- ثمانون عاماً، ومائة كتاب من العلم والفكر والإبداع، والحصانة الثقافية والأكاديمية الواعية
- الكاتب الإسلامي الكبير الدكتور حلمي القاعود ينتقل بالمقال الصحفي الإسلامي إلى الشأن اليومي، ومجريات الهم العام والخاص
- قلما تجد صحيفة أو مجلة إسلامية، من المغرب إلى الهند.. لم تكتب لها القاعود
برحيل المفكر الإسلامي الكبير الدكتور حلمي محمد القاعود، ينثلم جانب كبير من ركن الأصالة والهوية، ويفقد الفكر والوعي الإسلامي المعاصر واحداً من أبر رموزه، وأقدر كتابه، وأصدق رواده.. الأمناء الشرفاء المرابطين
– ولد القاعود بقرية (المجد) التابعة لمركز الرحمانية محافظة البحيرة، يوم الخميس 3 جمادى الأولى ١٣٦٥ ه/ ١٥ إبريل (نيسان) ١٩٤٦م. وحفظ القرآن الكريم في طفولته.. ثم حصل أولاً على دبلوم دار المعلمين ١٩٦٦، وعمل بعدها مدرساً بالمرحلة الابتدائية.. ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، فتخرج فيها عام ١٩٧٧.. ثم التحق بدار العلوم فحصل منها على الماجستير والدكتوراه في البلاغة والنقد، بدراسته في الماجستير عن (مدرسة البيان في الأدب العربي)، والدكتوراه عن (شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث)..
ثم انتقل للعمل مدرساً بكلية الآداب جامعة طنطا، إلى أن أعير أستاذاً مشاركاً بكلية المعلمين بالرياض، من عام ١٩٨٩ إلى،١٩٩٤ ثم حصل على الأستاذية عام ١٩٩٩، وتولى رئاسة قسم اللغة العربية بآداب طنطا من عام ١٩٩٩م حتى ٢..٢ م
– أبدع الدكتور حلمي القاعود نتاجاً ضخماً، يقارب المائة كتاب.. امتدت على مسطرة الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة في مجالات الأدب، والنقد، والفكر، والفن، والثقافة، والسياسة، والتاريخ، والرواية، والقصة، واليوميات
فقد أبدع ٣٧ كتاباً حول الأدب والنقد، والدراسات البلاغية المتخصصة
وحول الإسلام والسياسة، قدم ٣٦ كتاباً، تناولت سائر شئون اشتباك المسلم المعاصر مع الشأن السياسي في الداخل والخارج، من زوايا الرصد الإسلامي الوسطي الأمين
كما أصدر الدكتور القاعود، دراسته الصحفية المتخصصة (الصحافة المهاجرة رؤية إسلامية) التي صدرت عام ١٩٩٢، والتي عنيت بظاهرة هجرة الصحافة العربية إلي لندن وباريس وروما وقبرص، ورصد توجهاتها وقضاياها التي عالجت من خلالها الواقع العربي الشديد الارتباك في تلك الفترة
كذلك صدر له من قصص الأطفال، مجموعته (من واحد إلى سبعة) التي صدرت ملحقة بالعدد ١٧٤ من سلسلة كتاب (قطر الندى) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، إلي جانب مجموعتين قصصيتين، وثلاث مدونات من أدب السرديات، وأربعة كتب من التحقيقات والتوثيقات
– للدكتور حلمي القاعود عدة دراسات محورية في مجالها، من أهمها كتاباته في مجال تخصصه العلمي، في الأدب والنقد والبلاغة، مثل:
– تيسير علم المعاني
– مدخل إلى البلاغة القرآنية
– مدخل إلى البلاغة النبوية
وكتابه الفاصل (الورد والهالوك) حول شعراء السبعينيات في مصر المنشور عدة مرات، عن دار الأرقم بالزقازيق عام ١٩٩٩، ودار الاعتصام بالقاهرة ١٩٩٨ ودار العلم والإيمان بدسوق عام ٢..٨.. وهي الدراسة التي كانت صدمة لشعراء الحداثة، وعصابات قصيدة النثر، وكانت بمثابة الفرز والتجنيب الرياضي.. التي أثبتت الأيام صحة وجهة نظر القاعود العلمية فيها تماما٠ فكل من رشحهم للصعود وكانوا من (شعراء الورد).. كانوا كذلك فيما بعد!
وكل من رشحهم للسقوط.. وكانوا من ( شعراء الهالوك).. كانوا كذلك فيما بعد!
ولم تغادر نظرته شخصاً واحداً من الفريقين
كذلك كانت دراساته المنهجية المؤسسة، (الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني)
والأدب الإسلامي.. والفكرة والتطبيق)
ضمن أهم مرتكزات الأدب الإسلامي المعاصر، الذي كان القاعود أحد رواده الأوائل، منذ الأيام لطرح الفكرة، وإنفاذها رابطة ومسيرة ونهجا.. تنتشر فروع شجرته في أحد عشر قطراً من أرض الله تعالي
أهم معالم المسيرة
– وربما تفرض علينا تلك المسيرة الطويلة العريضة للدكتور حلمي القاعود، أن نوجز القول منها في نقاط
أولا: حققت مسيرة الدكتور حلمي القعود تلك المعادلة الصعبة، وهي الانطلاق إلى الشهرة والعالمية، من مركز دائرة المحلية.. فالدكتور القاعود لم يغادر قريته الأم (المجد- مركز الرحمانية – محافظة البحيرة) من أول يوم إلى آخر يوم في حياته، على الرغم من بعد المسافة.. فهذه القرية تبعد عن القاهرة أكثر من 15. ك٠ م
ومن المعروف أن القاهرة هي صانعة الرموز، والأضواء وهي مركز حراك الثقافة المصرية والعربية بشكل أساسي.. علي الرغم من ذلك، فقد حصل على جائزة مجمع اللغة العربية عام١٩٦٨، وجائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عام ١٩٧٢، وجائزة التميز في النقد الأدبي من اتحاد كتاب مصر عام ٢٠٢٠، وغيرها من الجوائز وشهادات التقدير وهو لم يغادر قريته من المهد الي اللحد
ثانياً: بدأ الدكتور حلمي القاعود حياته في كباحث في كنف الشعر والقصة والرواية، فقد عمل لفتره سكرتيراً لتحرير مجلة الشعر، كما كان من أوائل إصداراته قصه حياة الأديب الكبير محمد عبد الحليم عبد الله، التي صاغها في صوره روائية بعنوان: (الغروب المستحيل) وبها بدأ التعرف القريب لمحمد عبد الحليم عبد الله، الذي كان يعمل مديراً عاما بالمجمع اللغوي، الذي ذهب القاعود إليه عام 74 ليتقدم لمسابقته التي فاز بها في نفس العام
ثالثا: عمل الدكتور القاعود كمدرس بكل مراحل التعليم، فقد ارتقى سلم التعليم من أول درجة إلى آخر درجة، فعقب تخرجه من دار المعلمين عمل معلماً بالمرحلة الابتدائية، ثم بعد حصوله على ليسانس الآداب عمل بالمرحلة الإعدادية ثم الثانوية، ثم بعد حصوله على الدكتوراه، انتقل إلى التدريس بالجامعة، من أول عمله كمدرس، إلى الأستاذية بالدراسات العليا.. بالتوازي مع انخراطه في الصحافة الإسلامية بشكل تام، كأنما كان متفرغاً لهذا المجال عاكفاً عليه، فقلما تجد صحيفة أو مجلة إسلامية، من المغرب إلي الهند، لم يكتب لها القاعود.. حتي إن الكثير من الصحف والمجلات كانت تعتبره ضمن هيئة تحريرها الأساسية
فقد كتب للاعتصام والدعوة والوعي الإسلامي، ومنار الإسلام، والمجتمع، والشعب، وآفاق عربية، والبعث الإسلامي، والمشكاة، والأدب الإسلامي، والمحجة، كما كتب بالأهرام والأخبار والجمهورية، والهلال وغيرها من الصحف والمجلات، لأكثر من ستين عاما متواصلة
رابعاً: بدأ الدكتور حلمي القاعود حياته كبيراً مسايراً للكبار في كل مسيرته، حيث قام وهو طالب بدار المعلمين، بمشاركة زميله الأسبق منه بعام دراسي.. السيناريست الكبير محمد جلال الغلبان الذي عرف فيما بعد باسم (محمد جلال عبد القوي) في إعداد وتقديم الإذاعة المدرسية، بدار المعلمين بدسوق.. ثم ساير الصف الأول من كل الكتاب الإسلاميين الذين عايشهم وعاش معهم وبهم
خامساً: عرف عن الدكتور القاعود شدة الصبر، والمراس والتحمل.. وهكذا صارت حياته جميعاً.. فقد أجبرته على أن يكون صبوراً في كل شيء..
فحين ذهب ليتقدم إلى الجامعة بعد حصوله على الثانوية العامة.. تم تجنيده بالقوات المسلحة عقب نكسة ١٩٦٧ ليظل بالقوات المسلحة ست سنوات كاملة، ويخرج عام ١٩٧٤ بعد تحقيق النصر، ولتثمر هذه المرحلة روايته التي تعتبر من الأعمال الأدبية الجيدة عن حرب أكتوبر ( الحب يأتي مصادفة ) التي صدرت عن دار الهلال عام ١٩٧٦، ثم يواصل دراسته وهو بالقوات المسلحة، ومراسلته للأدباء والكتاب في المشارق والمغارب.. حتى إنه – في الوقت الذي كان فيه طالباً – كانت قد صدرت له أكثر من أربعة كتب متخصصة
سادساً: بدأ حياته روائياً بروايته (الغروب المستحيل) عن سيرة محمد عبد الحليم عبد الله.. بتقديم يوسف الشاروني، ثم صدر له فيما بعد ١٢ عملاً روائياً، ومجموعتان قصصيتان، ومجموعة لقصص الأطفال، إلا أن ضخامة إنتاج القاعود وغزارة عطائه، ظلمته كروائي.. فلم ينتبه أحد إلى هذه الأعمال المتميزة، التي تقيم منه أديباً روائياً قديراً
كذلك فإن معظم رواياته صدرت عن دور نشر متخصصة، وكانت تستوجب وقفة من الدارسين لهذا الجانب المظلوم من حياة هذا الراحل الكبير
سابعاً: هناك جانب مظلوم آخر، من جوانب عطاء هذا العلم الجليل.. ألا وهو سهمته الوفيرة في وسائل الإعلام المتعددة من إذاعة وتليفزيون في الداخل والخارج، خاصة ( إذاعة القرآن الكريم من القاهرة ) التي كان ضيفاً كبيراً في العديد من برامجها، خاصة برنامج ( بلاغة الرسول ) الذي يعده ويقدمه الزميل القدير الدكتور عبدالله الخولي، والرنامج الشهير (قصة في حديث ) للإذاعي الكبير الزميل الصديق رجب خليل، الذي كان أول من استضافه عام ١٩٩٣، إلي أن توقف البرنامج عام ٢٠١٤، وقد أصدر الدكتور القاعود معظم هذه الحلقات في كتاب ضخم من أربعة أجزاء، تحت عنوان ( قصة وحديث) عن مكتبة دار الصحابة بطنطا
ثامناً: كان الدكتور حلمي القاعود يقيم علاقات أدبية وثقافية كاملة من خلال المراسلة البريدية.. تلك الوسيلة التي كانت معهودة في ذلك العهد.. فقد أقام علاقاته المتينة مع الأديب السوري الكبير فاضل السباعي.. و (نجيب محفوظ سوريا) الدكتور عبد السلام العجيلي، وغيرهم، من خلال هذه المراسلات البريدية، بما يجعل من رسائله المخطوطة، مكنزاً أدبياً وثائقياً (والتي كان بعضها بيني وبينه.. من حسن حظى )
- عاش الدكتور حلمي القاعود حياته كلها، من أول يوم إلى آخر يوم.. وهو يمثل درعاً واقية للأمة.. مع ذلك الفريق الكبير من حماة الثقافة، ورعاة الهوية.. من أمثال أنور الجندي، وعبد الحليم عويس ومحمد عبد الله السمان وعماد الدين خليل، ونجيب الكيلاني، ود مصطفي محمود، ومحمد جلال كشك، وعادل حسين.. وغيرهم.. وغيرهم
وقد امتاز الدكتور حلمي القاعود بانتقاله بفن المقال الإسلامي من مجرد الحديث عن الإسلاميات والأخلاقيات وتعاليم الدين ومفاهيمه، إلى الشارع السياسي العام والمجريات اليومية الساخنة، وحديث المواطن بين اليوم والليلة.. واشتباكه مع شؤون الدين والحياة.. فكان مقاله قطعة حية من صناعة الحياة، يجد المسلم فيه بوصلته وسلواه وهداه
وهكذا كانت معظم كتاباته الإسلامية، عبارة هن منازلات في الأرض المكشوفة.. مثل: الحرب الصليبية العاشرة، ودفاعا عن الإسلام والحرية، وتحرير الإسلام، والإسلام في مواجهة الاستئصال، وحراس العقيدة، ومسلمون لا نخجل.. وغيرها من مئات المقالات والدراسات
ثلاثية النيل والحياة
ولعل الدكتور حلمي القاعود، قد أراد أن يختصر فلسفته وعطاءه في صياغة سيرته الذاتية، التي أصدر منها ثلاثة أجزاء، على هذا النحو الذي ينتظم خارطته الثقافية الواعية، كالتالي:
الجزء الأول: (زمن البراءة) النيل بطعم الجوافة
الجزء الثاني: (زمن الهزيمة) النيل لم يعد يجري
الجزء الثالث: (زمن الغربة) النيل لا طعم له
وقد صدرت جميعا عام ٢٠١٥
هذا.. وقد صدق صديقه الدكتور عبد السلام البسيوني، الذي حياه عند بلوغه السبعين بقصيدة طويلة منها:
تمشي وحدك
كأبي ذر تمشي وحدك
تهدر وحدك
تلعن أم الباطل وحدك
تجبه كالأسد الضاري..
عار الطاغوت
وتواجه بالصدر العاري..
فرعون.. سهام الجبروت
وتجندل.. يا قولة حق..
أصنام الكهنة والكهنوت
يا قلماً منضوداً من سجيل
يا لغة لا تعرف للمَيْن سبيل
يا جيش رجوم..
من طير تنقض أبابيل
كما نعاه ولده الكاتب الصحفي الدكتور محمود القاعود، في قصيدة طويلة منها:
أبي وإذا ما قلتها فكأنني
أنادي وأدعو يا ملاذي و يا ركني
لمن يلجأ المكروب بعدك في الحمي
فيرجع ريان المني ضاحك السن
فذهن كنجم الصيف أول الضحى
ورأي كحد السيف، أو ذلك الذهن
وكنت تري الدنيا بغير بشاشة
كأرض بلا ماء، وصوت بلا لحن
جريء على الباغي عيوف عن الخنا
سريع إلى الداعي، كريم بلا منّ
وهكذا.. عاش القاعود حياته كلها.. علي مستوي الكلمة والفكرة والجامعة، وهو شوكة في حلوق الطابور الخامس في كل مكان.. يعريهم ويجلدهم.. ويجعل غزلهم أنكاثاً.. وبنيانهم أجداثاً
رحم الله الأكاديمي الكاتب المفكر القدير الدكتور حلمي القاعود رحمة واسعة.. وجزاه عما قدم خير الجزاء
وتقبله في الصادقين السابقين