في زمن تاهت فيه البوصلة الشعرية بين الحداثة الشاردة ، والسطحية الباردة ، والكلاسكية الجامدة
خرج علي الأمة جيل جديد ، يحمل البشري ٠٠ ويدعو لليسري ٠٠وينهل ماءه من مزن السحاب ، وطهر الينابيع ٠٠
جيل يحمل هم الأمة الثقيل، ويشعل همتها المنطفأة ٠٠ ويدفع في روحها الحر الكظيم
من أمثال٠٠ محمود درويش ، وسميح القاسم ، محمد التهامي ، وعبد الرحمن بارود ، وصابرعبد الدايم يونس ، وحسن الأمراني ، وعبد الله عيسى السلامة ، ويوسف العظم ، وروضة الحاج ، وغيرهم وغيرهم
ليعيد للشعر العربي رواءه وبهاءه ٠٠ وجماله ودلاله ٠٠ وقوته وسموقه
وليكلم مشوار محمود حسن إسماعيل ، وصالح جودت ، وكامل الشناوي ، وأحمد رامي ، وعمر بهاء الدين الأميري ، ونازك ، والسياب ، والتيحاني يوسف بشير ، والشابي وغيرهم
وفي مقدمة هذا الجيل الأصيل المجدد ، الجميل المغرد٠٠ يقف الشاعر الفلسطيني الكبير محمود مفلح علامة فارقة في الشعر العربي٠٠ صوتًا أصيلًا لا يهادن٠٠ وشاهدًا شعريًا على وجع الأمة الممتد ٠٠ من غانة إلي فرغانة٠٠ ومن طنجة إلي جاكرتا
نعم ٠٠إنه شاعر لاجئ… لكن القصيدة وطنه
وهو شاعر مطارد
لكن الأمة مأمنه
وهو شاعر مظلوم
لكن الحق رايته
وهو شاعر فقير
لكنه أغني خلق الله بما غرد وردد وأنشد
وُلد الشاعر الكبير محمود مفلح علي ضفاف بحيرة (طبرية ) عام ١٩٤٣ ببلدة ( سمخ ) جنوب نابلس، وتفتحت عينه على نكبة فلسطين وجرح الشتات. لكنه، على عكس كثيرين، لم يجعل المنفى قيدًا، بل حوّله إلى منبر” دوار ، وميدان كرار ٠٠وكتب قصيدته كأنها صرخة في وجه الغياب ، وتكبيرة ،تعلن الإياب”
في كل حرف من قصائده لا تلمح أثراً للنواح المعتاد، ولاتشم رائحة للانكسار المخيم ٠٠بل ترى الكرامة تمشي على قدمين، ممزوجة بدمعة صافية وابتسامة صامدة، وكأن محمود مفلح قد اختار أن يكون شاعرًا يُبكي القارئ بنبل، لا بيأس.. ويثبته بعزم لابقلة حيلة٠٠
نشأ جيلنا ومحمد مفلح علي رأس من يمتعونه بجمال الحق ٠٠ وحق الجمال
محمود مفلح لا يكتب ليُدهش، بل ليُبقي شعلة الذاكرة مشتعلة٠٠ لا يتزين بالأوزان المزخرفة ليغطي خواء المعنى، بل يزرع الكلمة كما تُزرع الزيتونة: بثبات، وتاريخ، وأمل.
ويطلق القصيدة كما يطلق قذيفة (الياسين) علي (الميركافا ) من المسافة صفر
لغته نقية، صورُه مدهشة ٠٠ رغم بساطتها٠٠
أما قضاياه فكلها تنتمي للإنسان العربي المهزوم، المشتاق، والمقاوم٠٠ المسيج بنيران القدس الشريف ٠٠ المتوهج بنوره المقدس ٠٠ الذي يحيا ويموت وهو يرسل روحه زيتا يسرج في مشكاته بنور الله الذي لن ينطفئ أبدا حتي يوم المحشر والمنشر
أصدر الشاعر محمود مفلح أكثر من 15 ديوانًا، شكّلت بمجموعها سيرة شعرية كاملة لفلسطين، من المخيم حتي الطوفان
كل ديوان منها يحمل جزءًا من سيرة وطن، ومن سيرة شاعر لم يتورّط يومًا في المجاملات الشعرية أو السياسية.
شاعر القضية… والصحوة٠٠والكرامة
ما يجعل محمود مفلح متفرّدًا هو أنه لم يتاجر بالقضية، بل عاشها. لم يكتب لفلسطين كشعار، بل كحقيقة يومية: في الخبز، والماء، والآهات، والشهداء. وكان صوته، ولا يزال، صوتًا نظيفًا نقيًا، في زمن التباسات المواقف وتقلّب الولاءات.
كما أنه لم ينقطع عن جمهوره، بل ظل قريبًا من الناس، من المثقفين والمحرومين، من الطلبة ومحبي الشعر، حاضرًا بصوته في المهرجانات، وبنصه في المنابر الصادقة.
حضور متجدد
رغم أن محمود مفلح تجاوز الثمانين فإن قصيدته لا تزال شابّة، قوية، مشتعلة. يتفاعل مع قضايا أمته، يكتب عن غزة، وسوريا، والعراق، واليمن، وكأنه يؤمن أن الشاعر الحقيقي لا يتقاعد، ولا ينام في ظل الكلمات، بل يبقى حارسًا على بوابة الوعي.
في زمن الغبار، يبقى محمود مفلح شاعرًا من ذهبٍ لا يصدأ. لا يبحث عن مجد شخصي، بل عن كرامة جماعية. ولا يكتب قصيدة ليمرر بها الوقت، بل ليوقظ بها الضمير.
إنه واحد من أولئك القلائل الذين يجعلونك تؤمن أن الشعر العربي ما زال بخير، ما دام هناك من أمثال محمود مفلح، يكتبون من القلب… ويخاطبون الوجدان.