د. مصطفى اللداوي يكتب: خذوا حذركم ولا تضعوا أسلحتكم واستعينوا بالله ربكم
بعد أن فشل العدو الإسرائيلي ومعه الإدارة الأمريكية في استعادة أسراه من قطاع غزة بالقوة العسكرية الغاشمة، والغارات الحربية العنيفة، التي خلفت بعد ثمانية وأربعين يوماً من العدوان الوحشي، دماراً وخراباً واسعاً في كل أنحاء القطاع، وقتلت وجرحت عشرات آلاف الفلسطينيين، الذين رفضوا سياساته ووقفوا في وجه إجراءاته، وأصروا على البقاء في مناطقهم، وامتنع أغلبهم عن مغادرة الشمال الملتهب إلى الجنوب المهدد، ورفضوا مخططات التهجير واللجوء التي أعد لها العدو وتهيأ، ومَنَّى نفسه بها واستبشر.
وبعد أن أدرك أنه عاجزٌ تماماً عن تحقيقٍ أيٍ من أهدافه التي أعلن وأكد عليها، وأنه غير قادرٍ على فرض إرادته على المقاومة والسكان، في ظل الصبر والصمود، والاحتساب والاحتمال، والمقاومة والتصدي، وتنامي مسيرات الإدانة والاستنكار لعدوانه على قطاع غزة، وتغير المزاج الدولي لصالح الفلسطينيين وضد سياساته العنيفة بحقهم، التي لم يستطع العالم لهولها وفظاعتها إنكارها أو تحملها والقبول بها.
أمام هذا الواقع اضطر العدو إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حركة حماس عبر الوسيطين القطري والمصري، والقبول بشروط الهدنة المؤقتة، واحترام قواعد وقف إطلاق النار، رغم أن رئيس حكومته لا يفضل التهدئة، ولا يرى أنها السبيل الأفضل لنجاته من المسائلة والمحاكمة التي تنتظره يقيناً، ولا الوسيلة المناسبة التي تبقيه على رأس الحكومة، التي يجمع الإسرائيليون على أنها برئاسته تتحمل كامل المسؤولية عما جرى لهم وأصابهم، يوم السابع من أكتوبر وبعده، إلا أن الواقع ألزمه، ومجريات الميدان أخضعته، أو هكذا يبدو حتى حين، ويتظاهر حتى يتجاوز المرحلة وينجو من الاستحقاق.
لهذا لجأ العدو الذي فشل وجيشه في إحراز نصرٍ أو استعادة الهيبة واستنقاذ الأسرى، إلى وسائل أخرى غير القوة، عله يستدرك بها بعض ما فاته، ويحقق جزءً من أهدافه بالحيلة والخدعة، والسياسة والمناورة، فقبل بالهدنة مرغماً، وانصاع لها كارهاً، وأعلن التزامه بها ظاهراً، ربما أيضاً استجابةً لضغط شارعه المتصاعد، المطالب بإلحاح بضمان عودة أبنائهم الأسرى.
لكن العدو خلال كل جولات المفاوضات، التي لا يبدو فيها راضياً عن نفسه، عمد إلى الإعلان الصريح والتهديد المباشر، أنه سيعود إلى استخدام القوة بعد الانتهاء من أزمة الأسرى واستعادتهم، وأن مرحلة الهدوء هذه مرحلة مؤقتة وعابرة، وستتبعها جولة أخرى من القتال قاسية، يحقق خلالها الأهداف التي أعلن عنها، إلا أن البعض من جهاتٍ عدةٍ، يرى أن جعجعته هذه هي جزء من المفاوضات، وأنها محاولة للضغط على المقاومة بقوة النار، علها تتنازل عن بعض شروطها، وتتراجع عن بعض مواقفها تحت ضغط المعاناة الشعبية، وتفاقم الأزمات الحياتية والاجتماعية.
إلا أن الحقيقة التي يجب ألا نغفلها أو نستهين بها، هي أن العدو قد يقوم بتنفيذ وعوده، ويلجأ في حالتين، إلى القوة المفرطة ضد حركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية، أولاها إذا تعثرت المفاوضات، وشعر بأنه يحشر في زاويةٍ حرجةٍ، يبدو فيها أنه سيكون ملزماً بدفع أثمانٍ باهظة لصالح المقاومة، متمثلةً بالإفراج عن أعدادٍ كبيرة من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، من رموزهم القدامى وقادتهم الكبار، وعمالقتهم الصابرة وأقدمهم حكماً وأعلاهم أحكاماً، ممن يصفهم بالخطرين، ويقول أن أياديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين، حينها قد يهرب إلى الأمام، ويجرب المجرب، ويعود إلى ما بدأ به وتراجع عنه، وفشل فيه وخسر، ظاناً أنه يستطيع الاستدراك وتحقيق ما فات.
أما الحالة الثانية التي قد يستخدم فيها العدو القوة العسكرية، ويعود إلى تنفيذ غاراتٍ جويةٍ وبريةٍ وبحرية ضد الفلسطينيين عموماً، بحجة استهدافه مواقع عسكرية لقوى المقاومة الفلسطينية، وهي حالة مرجحة نسبياً، بالنظر إلى طبيعة العدو الإسرائيلي وطباعه، وبدراسة تاريخيه ومعرفة سجله، فالمعهود عنه أنه كاذبٌ ويغدر، وأنه لا يلتزم بالعهود وينكث، وينقلب على الاتفاقيات وينكص.
فليس من المستبعد أبداً، بل هو المرجح حكماً، أن يلجأ إلى التصعيد ويعود إلى القصف، بعد الانتهاء من عملية تبادل الأسرى والمعتقلين، أياً كانت صيغة الصفقة وشكلها، وحجم المحررين فيها وتصنيفهم، فهو قد يرى نفسه محرراً من القيود كلها بعد استعادته لأسراه، ما يجعله قادراً على توجيه ضرباتٍ انتقامية وثأرية، تفقد الفلسطينيين ومقاومتهم الفرحة بالنصر، والسعادة باستعادة الأسرى، والابتهاج بعودتهم إلى بيوتهم، بل قد يلجأ إلى اغتيال الأسرى المحررين أنفسهم، وقد سبق له أن ارتكب مثل هذه الجريمة.
إلا أن المقاومة الفلسطينية التي أحسنت إدارة المعركة مع العدو، وتمكنت من لطمه يوم السابع من أكتوبر، وأجادت في عملياتها ضده، وأوجعته وآلمته، ومنعته وصدته، تبدو في المفاوضات غير المباشرة، ذكية ولماحة، ويقظة وحذرة، وتعرف طبيعة العدو جيداً، وتفهم مناوراته وتدرك غاياته، مما يجعلها واعية لخداعه، وجاهزة لمناوراته، وهي بعد الاتكال على الله والاستعانة به، تتمسك بسلاحها، وتقبض على ناصية قرارها، وتثق بعد الله عز وجل في قدراتها.