مقالات

د. ممدوح المنير يكتب: على الله.. تكييف بعاصمة جهنم

وقفنا في المذكرات الماضية عند موقف من لطف الله بعباده في الحلقة الثانية

(مع الله.. رقبة دجاجة) وتجدون رابطها في التعليقات.

والتي انتهت بأن الطعام الذي جاءني من حيث لا أحتسب أعطيت منه للعسكري الذي كان يرفض جلب الطعام لي ويسخر مني فيرمي عليَ فضلات طعامه من عظام دجاج أو قشر برتقال أو موز ساخرا مني.

حدث الموقف السابق في الأسبوع الأخير لوجودي في هذا المكان الكئيب.

وتسارعت بعدها الأحداث وتسارع اللطف كذلك.

استمر التعذيب مع التجويع أحيانا وقبول ما يأتي به والدي أحيانا أخرى.

حتى فوجئت ذات صباح بالعساكر يفتحوا باب الزنزانة عليَ ويطالبوني بالخروج و كنت قد أنهيت جلسة التحقيق و التعذيب منذ عدة ساعات فقط و غير قادر على الحركة بفعل الصعق بالكهرباء و الكدمات من الضرب و النوم في المياه و الجوع، فلم تكن بي طاقة لتحريك إصبعي و ليس للمشي و الحركة فحملوني على أكتافهم و وضعوني في سيارة الترحيلات التي لا يعرف قسوتها الا من ركبها.

ولما كانت الإجراءات المتبعة أن يرافقني ضابط يجلس بجوار السائق وداخل غرفة الحبس بالسيارة الكبيرة أمين شرطة وإثنين من العساكر و خلفنا سيارة أخرى بها قوة تدخل سريع، لم أكن أعلم أنني مهم هكذا!!

لم تكن حالتي تسمح بتقييدي بالكلبشات (أساور القيد) في جدران السيارة فتركوني مستلقي على الأرض الحديدي على ظهري.

في ظل درجة حرارة تقترب من الخمسين في الخارج وتتجاوزها في الداخل، فكنت أرقد على حديد هو كتلة من النار، مع جروح وكدمات فكان العذاب لا يطاق.

حتى جاءني أحدهم متشفيا وقال لي في أذني الى المقر الرئيسي لأمن الدولة وكنت قد قرأت كثيرا عن هذا المكان ووحشيته فإليه ترسل أجهزة الاستخبارات الأجنبية المعتقلين لانتزاع الاعترافات التي يريدونها أو قتلهم.

واستمريت في طلبة «النجدة» بـ«لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» طوال الطريق الذي يستغرق ساعات وأنا مستلقي على الأرض لا أتحرك وهم يضحكون ويتلاعبون من حولي.

وكلما ارتفعت الشمس زاد الحر و بدؤوا بالتخفف من ملابسهم بعد تصبب الغرق بغزارة من الجميع.

حتى وصلنا إلى باحة «عاصمة جهنم» كما يطلقون عليه إعلاميا ونزل الضابط في مقدمة السيارة لينهي إجراءات الاستقبال وطال الانتظار وأنا على حالي حتى تجاوزنا الساعتين انتظار وأصبحت درجة الحرارة لا يتحملها بشر نتيجة توقف السيارة تحت الشمس مباشرة وبدأ العساكر في الصراخ والطرق على جدران العربة لأن الضابط تركهم وذهب ومعه مفتاح السيارة الخلفي فأصبحوا محبوسبن معي وأنا صامت مستمر في طلب الغوث.

حتى جاء أحدهم وأجلسني ووضعت ظهري على جدار السيارة الملتهب.

وبدؤوا في خلع كل ملابسهم عدا الداخلية من شدة الحر وأخذ العساكر يبكون ويصرخون من الحرارة والاختناق وأنا منذ أجلسوني أخذت أدعو الله

اللهم اجعلها بردًا وسلامًا كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم ونجني من القوم الظالمين.

مع الاستمرار في الاستغفار وشعرت بعدها فجأة بسلام نفسي عجيب وأني في تكييف مركزي.

عجيبة هي معية الله،

لا تمنع الألم بالضرورة، ولكنها تنزع منه مرارته.

لا توقف السوط، ولكنها تسكب على الظهر صبرًا بحجم الجبال في أشد لحظات ضعفك.

لا توقف عواء الظالمين، لكنها تسد آذان قلبك عن صخبهم، حتى تسمع بقلبك

(قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) ليس لإيمان لديك فالله وحده من يعلم قدر تقصيرك في حقه، من يعلم غفلتك.

لكنه منَ عليك بأن جعلك غصة في حلق الظالمين تفضلا منه ونعمة.

ابتسمت من منظرهم، فقدوا صغروا في عيني كثيرا وكأني أشاهد عرض سينمائي لمجموعة رجال بملابسهم الداخلية يتقافزون وهم يصرخون ويبكون وأخذت أتسائل عن أي عقل يقبل هذا العذاب في الدنيا ثم يليه عذاب الآخرة إن ماتوا ظالمين فهم جنود الفرعون ويده التي يبطش به.

و أنا في حالتي هذه جاءني أمين الشرطة غاضبا يتصبب عرقا و تنتصب اوداجه غضبا وهو يصرخ و يزأر و كنا قد تجاوزنا الأربع ساعات و وضع يداه على كتفيَ وهذّني بشدة و قالي لي و عيناه تحدق فيَ يتطاير منها الشرار، قائلا ألا تشعر بالنار التي نحن فيها فقلت له مندهشا، هل الجو حار فعلا؟

اعتقد أنني اسخر منه فدفعني للخلف وقال لي غاضبا مستشيطا أتسخر مني؟

فقلت له أقسم بالله أني أشعر أنني في تكييف مركزي بارد لذيذ.

فنظر لي محدقا في بلاهة ثم انصرف وذهب يخبر الإثنين الآخرين وجلس أحدهم بجواري يبحث عن التكييف او نسمة هواء بارد ناحيتي فلم يجد.

لم يفهم هذا الأحمق أن «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» هي ريموت التكييف!!

وأكملوا صياحهم وصراخهم «سنموت هنا، افتحوا! افتحوا!» وهم يسبون الضابط بأحط السباب!!

حتى جاء الضابط بعد ٦ ساعات إن لم تخني الذاكرة وانتظرت الهبوط الى عاصمة جهنم لكنه ركب السيارة وخرج من المكان فعلمت أن معية الله لم تشمل السيارة فحسب ولكن عقول هؤلاء المجرمين.

فصدر الأمر «كن» مرة أخرى فتغيرت قناعات وأفكار هؤلاء المجرمين.

إن الله لا يكشف عن عنايته دفعة واحدة، بل يغمر بها عبده مرحلة مرحلة، حتى يرى بعينه كيف أن اللطيف لا يغيب طرفة عين عن عباده.

تم إعادتي من حيث أتيت وحملوني مرة أخرى على أكتافهم ورموني في ذات الزنزانة.

ولعاصمة جهنم قصة عجيبة مدهشة سأرويها لاحقا بإذن الله بعد انتهاء سلسلة «مع الله».

أن معية الله للمظلوم ليست ترفًا ولا وعدًا مؤجلًا،

بل هي واقع تدب فيه الحياة متى قلت من أعماقك:

«لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين».

فطوبى للثابتين في غياهب الظالمين.

وطوبى لمن حفظ العهد مع الله يوم تكسرت الدروب.

طوبى لمن لم يتنازل عن الحق، ولم يهادن الطغيان.

طوبى لم يبيع قضيته لأن غيره باع أو تخلى.

د. ممدوح المنير

مدير ومؤسس المعهد الدولي للعلوم السياسية والاستراتيجية، خبير دولى فى مجال التنمية البشرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى