الأحد سبتمبر 8, 2024
أقلام حرة

د. أنس الرهوان يكتب: أشجان الصالحين وأشواقهم

فرَغَ سيِّدُ الصالحين من غزوةِ أُحدٍ، بعد أن أَوْدَع أرضَها سبعين شهيدا، فهاجَتْه أشجانُه إلى أن قال يوما: ألَا واللهِ، لَوَدِدتُ أني غُودِرْتُ مع أصحابِ نحْصِ الجبل.

وحين طرقَتْ هالةُ بنت خويلد رضي الله عنها بابَه يومًا، ارتاعَ وقال: اللهم هالةَ.. لأنه ذكر حبيبتَه الأولى، وسيدةَ نساء العالمين، خديجةَ بنت خويلد رضي الله عنها.

وفي غزوة حنين، حين ولَّى المسلمون مدبرين، ثبَتَ مع النبي نفرٌ قليلٌ، كان فيهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه، رجلٌ طالما كان شديدَ العداوة للإسلام وأهله، لكن الله نوَّرَ قلبَه بالإيمان.. نظر إليه رسول الله يوم حنين، فأعجبَه ثباتُه وبسالتُه، وقال: أرجو أن يكون خلَفًا من حمزة.. لم تفارق أشجانُ حمزةَ رضي الله عنه ذلك القلبَ النبويَّ الأطهرَ.

ولما مات ابنُه إبراهيم رحمه الله ورضي عنه، استدْعَتْ ذاكرتُه الشريفةُ أحدَ قدماء أصحابه، الملتحقين بركاب الخالدين في زمانٍ مضى، فقال لابنه إبراهيمَ وهو يُودِعُه بطنَ الأرض: الْحَقْ بِسلفنا الصالحِ عثمانَ بنِ مظعون.

ولما هاجر المسلمون إلى المدينة واستوخموها، طارت بِبلالٍ رضي الله عنه الأشواقُ إلى مكة شرَّفها الله، فأنشدَ:

ألا ليت شِعري هل أبيتنَّ ليلةً

بوادٍ، وحولي إذخرٌ وجليل

وهل أرِدَنْ يومًا مياهَ مجنَّةٍ

وهل يبدوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ؟

ولما حضرت الوفاةُ أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ظهرتْ أشواقُه إلى حبيبه على هيئة سؤال.. «في أي يوم تُوفِّي رسولُ الله ؟!»، وإن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما مِن ليلةٍ إلا وأنا أرى فيها حبيبي -يعني الرسولَ -.. ثم يبكي.

وجاء رجلٌ من الصحابة إلى النبي ، ملءُ قلبِه شجنٌ وشوقٌ وحبٌّ، فقال -في كلامٍ له-: وإني لَأكونُ في البيت فأذكرُك، فما أصبرُ حتى آتيَ فأنظرَ إليك…!

وجعلَتْ أمُّ أيمنَ رضي الله عنها تبكي بعد وفاة ربيبِها محمدٍ ، فسألها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقالت: أبكي لانقطاع الوحْي من السماء.. فهيَّجتهما على البكاء، ولعلها هيجت كل من يقرأ قولها!

وأما فاطمةُ رضي الله عنها وأرضاها، فعاشت بعد أبيها صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه أشهُرًا ستةً، تذوب من حزنها وشوقها إليه.

وحلَّقَتْ بخباب بن الأرَتِّ رضوان الله عليه أشجانٌ قديمةٌ، فقال يوما: هاجرْنا مع النبي ، نريد وجهَ الله، فوقع أجرُنا على الله، فمِنَّا مَن مَضى لم يأخذْ مِن أجرِه.. منهم مصعب بن عمير.

وكان عبدُ الرحمن بن عوف رضي الله عنه صائما فأُتِيَ بطعام، فكأنما لاحَت له في الطبقِ صورةُ مصعب بن عميرٍ رضي الله عنه، وذلك الكفنِ الذي إن غطى رأسَه بدَتْ رجلاه، وإن غطى رجلَيْه بدا رأسُه، وكأنما لاح له رسْمُ حمزةَ بن عبد المطلب رضي الله عنه، وليس له ما يُكفَّن فيه إلا بردةٌ له.. فهاجَهُ ذلك الأمرُ على البكاء حتى ترَكَ الطعامَ!

أما أبو هريرة رضي الله عنه.. ضيفُ الإسلام، فقدْ حمَلَه جودُ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وتحمُّلُه إياه، على أن قال في ساعة شجنٍ وذكرى: ما احتذى النعالَ ولا ركب المطايا أحدٌ بعد رسول الله خيرٌ من جعفر.. وقال أيضا: وكان أخْيَرَ الناس للمساكين جعفرُ بن أبي طالب، كان ينقلبُ بنا فيطعمُنا ما كان في بيته، حتى إنْ كان لَيُخرِج لنا العكَّة التي ليس فيها شيءٌ، فنَشقُّها فنلعقُ ما فيها!

وكان كعب بن مالك رضي الله عنه إذا خرج إلى الجمعةِ، صلى على أسعد بن زرارة رضي الله عنه، واستغفر له، فسأله ولدُه عبد الرحمن، فقال: أيْ بٌنَي، كان أول من جمَع بنا -يعني أول مَن صلى بهم الجمعة- بالمدينة في هُزْم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيعٍ يقال له: الخضمات… .

ودخل واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ رضي الله عنهم على أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان واقدُ مِن أعظمِ الناس وأطولِهم، فقال أنس: مَن أنت؟ قال: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ.. فقال أنس: إنك بسعدٍ لَشبيهٌ.. ثم بكى فأكثر البكاء!

وكان كابس بن ربيعة الساميُّ -من بني سامة بن لؤي- يشبه النبي ، فكتب أهل البصرة إلى معاوية أن الناس قد فُتنوا برجل يشبه النبي ، فكتب معاوية إلى عامله على البصرة ليرسل هذا الرجلَ إليه، فلما رآه معاوية قام إليه وقبَّل بين عينيه وأعطاه أرضا، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا رأى كابسًا هذا، بكى!

وكان خالد بن معدانَ رحمه الله قلَّما يأوي إلى فراشِه إلا وهو يذكرُ شوقَه إلى رسول الله ، وإلى صحابته من المهاجرين والأنصار، يُسَميهم ثم يقول: هُم أَصْلي وفَصْلي، وإليهم يَحنُّ قلبي، طال شوقي إليهم، فعجِّل ربِّ قبضي إليك.. حتى يغلبه النومُ وهو في بعض ذلك الشجن…….!

Please follow and like us:
د. أنس الرهوان
طبيب، كاتب وباحث

1 Comment

Comments are closed.

قناة جريدة الأمة على يوتيوب