وفي مكان ليس بعيدًا عن البلد الحرام (مكة)، يُطل عليها جبل عرفات (عرفة) الذي يرتفع عنها بمقدار ثلاثمائة متر، وهو الذي يقف به الحجيج في اليوم التاسع من ذي الحجة من كل عام، ليُجددوا العهد والميثاق مع الله تعالى، فيعترفوا بربوبيته لهم، ويعلنوا له الطاعة والتلبية والتوحيد قائلين:
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك له).
ويستحضرون في ذات الوقت أنهم بَنعمان حيث أنعم الله تعالى عليهم بالخلق والعبودية له عز وجل، وأنّ نَعمان هو عرفات (عرفة) الذي يقفون به لله تعالى، وأنه المكان الذي هبط منه أبوهم آدم وزوجه عليهما السلام، والذي نظن أنه مكان الجنة التي أسكنهما الله تعالى في أوَّل خلقهما.
إنّ قرب وادي مكة من جبل عرفة بمسافة اثنين وعشرين كيلو مترًا يجعل ما نفترضه ليس مستبعدًا من كون جبل عرفات هو المكان الذي كانت فيه جنة آدم عليه السلام، وإنّ كون منطقة مكة منخفضة حيث هي وادٍ كما في الآية:
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} إبراهيم/37، يجعل الاحتمال قويًا في أنّ آدم عليه السلام قد هبط من جبل عرفات المرتفع إلى وادي مكة المنخفض، وأنّ جبل عرفات كان جنته على الأرض في أوَّل خلقه كمرحلة تدريبية له من الله تعالى، ليتعرف على حياته ووظيفته، ثم كانت مكة له بعد ذلك بدايةً للكدح، والعمل، والإعمار، والعبادة، والتكاثر، والقيام بالدور المناط به كخليفة في الأرض.
إن هذا من شأنه أن يعيننا في هم وقوف الحجيج في كل عام بعرفة، حيث الميثاق والعهد والجنة الأولى، والمعصية الأولى التي أذهبتها التوبة والإنابة.