مقالات

د. نصر فحجان يكتب: جنةُ آدم جنةٌ بربوةٍ عالية

لقد تبيَّن لنا فيما سبق كيف أنّ الله تعالى قد أخذ الميثاق من بني آدم بنَعمان بعرفة،

وأنّ آدم عليه السلام قد كان ب (عَرَفة) عندما أخذ الله تعالى من ظهره كلّ ذرية ذرأها،

وأشهدهم على أنفسهم في هذا المكان بالذات، بأنه عزّ وجلّ ربُّهم.

ويتبيَّن لنا أيضًا من هبوط آدم عليه السلام من الجنة أنّ هذه الجنة كانت برَبوة من الأرض،

وأنّ الله تعالى قد أمر آدم عليه السلام بالهبوك منها إلى أرض أخفض وأدنى بعد أن أغواه الشيطان وزوجه،

وأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الاقتراب منها.

والمعروف أنّ جبل عرفات يقع على الطريق بين مكة والطائف، ويصل ارتفاعه إلى ثلاثمائة متر فوق مستوى أرض مكة،

ولا بد للحجيج الذين يريدون الوقوف به أن يصعدوا إليه صعودًا تدريجيًا حتى يصلوا إلى سطحه وقمّته.

وعند إفاضة الحجيج من عرفة فإنهم يتركونه فوقهم، ويُفيضون منه إلى مزدلفة انحدارًا، ومن ثَمّ إلى مِنى ومكة، يقول الله تعالى:

{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} البقرة/ 198.

جنة آدم كانت في منطقة مرتفعة

إن عملية الهبوط التي قام بها آدم وزوجه عليهما السلام من الجنة التي أسكنهما الله تعالى تشير إلى أنّ هذه الجنة كانت في منطقة مرتفعة، أو بربوة عالية، فإن لفظة:

(اهبطوا) في قوله تعالى:

{قُلنا اهبطوا منها جميعًا} طه/111،

تدل على الانتقال من مكان مرتفع إلى مكان منخفض، ومن منزلةٍ إلى منزلةٍ أقلّ رتبةً،

وقد نقل الأستاذ محمد رشيد رضا عن الراغب الأصفهاني قوله:

(الهبوط: الانحدار على سبيل القهر، أو سُمّي بذلك لأنّ ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه، أو هو كما يقال:

هبط من بلدٍ إلى بلد، كقوله تعالى لبني إسرائيل:

{اهبطوا مصرًا}.

ويقول أبو منصور الماتريدي في تفسيره:

تأويلات أهل السنة:

(الهبوط: النزول في موضع، كقوله تعالى: {اهبطوا مصرًا}، أي انزلوا فيه، ويحتمل الهبوط منها أي النزول من المكان المرتفع إلى المنحدر والدُّون من المكان).

تسمية جبل عَرَفة

وتأتي تسمية جبل (عَرَفة) بهذا الاسم لِتُشير إلى وظيفته الأولى منذ خلِقَ آدم عليه السلام، حيث عرَّفه الله تعالى بخالقه وربِّه، وأمره بطاعته والتزام أمره عندما قال:

{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾

الأعراف/ 19،

وعرَّف بني آدم بخالقهم وربِّهم في عَرَفة أيضًا، وهو نفس المكان الذي أسكن الله تعالى فيه آدم وزوجه عليهما السلام، يقول الله تعالى:

{إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظهُورِهِمْ ذرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} الأعراف/ 172.

وفي بيان المراد من الآية السابقة يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

(أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال:

{ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).

جنة بربوة من الأرض

وإضافة لما سبق فإننا نجد في القرآن الكريم أنّ الله تعالى يمتدح الجنة أو الحديقة التي تكون بربوة من الأرض، كما في قوله تعالى:

{وَمَثَلُ الَّذِينَ ينفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾

البقرة/ 265.

ونجد مثل هذا الامتداح للزيتونة المباركة التي ورد ذكرها في سورة النور في قوله تعالى:

{زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} النور/35،

فهي زيتونةٌ بربوة مرتفعة لا شرقية ولا غربية، تتعرض للشمس في كل ساعات النهار، ويأتيها الهواء من جميع الجهات.

فالجنة التي تكون بربوة فإنها تكون أكثر إنتاجًا، وأكثر خضرةً وظلالًا. وهذا ينسحب على جنة آدم عليه السلام التي كانت بربوة من الأرض،

فيها من الماء والزروع ما يجعل آدم عليه السلام آمنًا من الجوع والظمأ ولفح الشمس المحرقة،

وقد بيّن القرآن الكريم هذا بشكل واضح في قوله تعالى:

{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحىٰ} طه/119.

د. نصر فحجان

عميد‏ ‏كلية دار الدعوة والعلوم الإنسانية‏.. ومحاضر دراسات إسلامية - غزة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights