د. نصر فحجان يكتب: {فإذا جاءَ وَعد أولاهُما}

اجتهد المفسرون قديماً وحديثاً في تحديد كلٍّ من الإفساد الأول، والإفساد الثاني لبني إسرائيل، لكنهم متفقون تقريباً على تحديد الإفساد الأول،
حيث إنَّ هذا الإفساد قد زال وانتهى على يد (نبوخذ نصًر) ملكِ بابل في 586 ق. م الذي قتل الآلاف من بني إسرائيل، ومثلهم معهم من السبايا، وجاس خلال الديار المقدسة، وخرّب كلّ شيء أو حرّقه.
يقول الرازي:
(إنّ بني إسرائيل تعظَّموا وتكبَّروا واستحلُّوا المحارم، وقتلوا الأنبياء، وسفكوا الدماء، وذلك أوّل الإفسادين، فسلّط الله عليهم (بختنصّر)، فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة، وذهب بالبقية إلى أرض نفسه، أيْ بابل).
ويقول القرطبي:
(هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصّر في المرة الأولى، قاله: ابن عباس).
ويقول الطاهر بن عاشور: (الأشوريّون أهل بابل وهم جنود بختنصّر)، وكذلك قال جمعٌ غفير من المفسرين منهم:
(مقاتل في تفسيره، والنسفي في تفسيره، والسعدي في تفسير كلام المنان، وابن كثير في تفسير القرآن الكريم، والزمخشري في الكشاف، وأبو الفرج ابن الجوزي في زاد المسير، والزجّاج في معاني القرآن وإعرابه، والدكتور محمد سليمان الأشقر في زبدة التفاسير، ومحمد أبو زهرة في زهرة التفاسير، وأبو البركات التلوي في أبدع البيان لجميع آي القرآن، والمرغني في تاج التفاسير، والبغوي في معالم التنزيل، ود. وهبة الزحيلي في التفسير المنير، وغيرهم كثير).
ومن علماء أهل الأرض المباركة المعاصرين الذين تناولوا تفسير هذه الآيات من سورة الإسراء بشكلٍ منطقيٍّ وعلميٍّ مقنع، كلٌّ من الدكتور يونس الأسطل، والأستاذ بسَّام جرَّار حفظهما الله.
يقول الدكتور يونس الأسطل:
(إنَّ المرجًح أنَّ تحطيم الفساد الأول قد مضى، حيثُ سَلَّط الله عليهم كفرة المجوس من البابليين والأشوريين، وجاس بهم (نبوخذ نصَّر) خلال ديار اليهود،
وتركها خاوية على عروشها مائة عام، كما في قصة العُزَير أو غيره، حين مرَّ على بيت المقدس وهي خاوية على عروشها،
وتساءل: أنّى يحيى هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه، فوجد العمران قد أعيد من جديد، فقال: أعلم أنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير)
ويقول الأستاذ بسَّام جرَّار: (وهكذا نشأت مملكة (إسرائيل) في الشمال ومملكة (يهوذا) في الجنوب وعاصمتها القدس،
وكان الفساد، فكان الجوس من قبل الأعداء الذين اجتاحوا المملكتين في موجات بدأها المصريون،
وتولى كُبْراها الأشوريون والكلدانيون القادمون من جهة الفرات،
ففي سنة 722 ق. م هاجم الأشوريون مملكة (إسرائيل) في الشمال ودمروها،
وفي سنة 586ق.م زحف الجيش البابلي على مملكة يهودا في الجنوب، وقَضَوْا عليها…)
الإفساد الأول لبني إسرائيل
ويمكنني تلخيص ما جاء في كتب التفسير القديمة والحديثة عن الإفساد الأول لبني إسرائيل كما يلي:
من المعروف أنّ الله تعالى لم يكتب لموسى عليه السلام دخول الأرض المقدسة (فلسطين)
حين خذله بنو إسرائيل، ولم يعدْ يملك إلا نفسه، وأخاه هارون، وأنّ يوشع بن نون عليه السلام بعد فترة التيه هو الذي دخل فلسطين، ومعه الأسباط من بني إسرائيل،
وظلَّ الأمر مستقراً لبني إسرائيل في الأرض المباركة (فلسطين) إلى أنْ تُوفي سليمانُ عليه السلام سنة 935 ق. م،
وتولى ابنُه المُلك بعده، وسرعان ما تمرَّد عليه شعبُه، وخلعوا طاعته.
وانقسمت دولته إلى دولتين:
أ- دولة في الشمال: وعاصمتها (سبسطية) وكانت تضُمُّ عشرة أسباط.
ب- دولة في الجنوب: وعُرفَت بيهوذا، وعاصمتها القدس، وتضمُّ سِبطين، هما سبط يهوذا، وسبط بنيامين.
يربعام ملك مملكة إسرائيل
وكان أوَّلُ ملكٍ على مملكة إسرائيل في الشمال رجلًا يُقال له (يربعام)، خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان في مملكة يهوذا في الجنوب،
إذا صعدوا إلى القدس في الأعياد، ليعبدوا الله، ويقرِّبوا ذبائحهم هناك، فأقام في مملكته عجلين من ذهب، وأمر بعبادتهما، ورتَّب لهم أعياداً احتفاليةً وكَهَنَة.
وقامت حروب كثيرة بين ملوك هاتين المملكتين لبني إسرائيل، وكان يَتَخَلًّلُهما من الملوك مَنْ ينزع عبادة الأوثان، إلا أنّه لا يلبث الحال حتى يأتي مَلِكٌ جديد، فيُعيد الوثنية.
واستمرَّتْ مملكة إسرائيل نحواً من مائتين وخمسين سنة، وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم، فسلَّط الله عليهم ملك أشور،
ففتح السامرة -دولة الشمال- وسباهم إلى بابل، وانقرضت مملكة الأسباط العشرة، ولم يُسمَع ذِكرُهم بعد.
مملكة يهوذا
وأما مملكة (يهوذا) فبقيت بعد انقراض مملكة (إسرائيل) ما يزيد على عشرين عاماً، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير،
فزحف إليه ملك بابل (نبوخذ نصَّر)، فسبى قسماً من شعبه، وكان هذا هو السَّبْيَ الأول.
ثم جاء بعد ذلك الملك الشرير ابنه، فسار على طريقه أبيه، فعاد إليه مَلِكُ بابل (نبوخذ نصَّر) وأسَرَه هو وآله وجنوده، وقسماً من الشعب،
وكان هذا هو السّبْيَ الثاني بعد ثماني سنين من السّبْي الأول، ثم قام فيهم ملِكٌ أكثر شراً وسوءاً ممن تقدَّم، وهو آخر ملوكهم، واسمه (صِدْقيا).
وفي آخر أيامه حاصر (نبوخذ نصَّر) بيت المقدس، ودخل على (صِدْقيا) وقلع عينيه، وقيَّده، وأسَرَه إلى بابل،
وأحرق المدينة، وسبى كلَّ شعب مملكة (يهوذا) ما عدا مساكين الأرض، وهذا هو السّبْيُ الثالث والأخير،
وكان في سنة 586 ق.م، وهو قوله تعالى:
(فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا)
الإسراء/5،
والله أعلى وأعلم.
د. نصر فحجان – غزة
من كتابه/ وعد الآخرة – زوال لا إبادَة.