مقالات

د. نصر فحجان يكتب: فما هذه التماثيل؟

ولماذا كان سليمان عليه السلام يأمر الجنَّ أن يعملوا له تماثيل؟

انطلاقًا من المدلول اللغوي السابق لكلمة (تماثيل)، وأنها تعني صورة الشيء ومثلَه، فإنّ الأمر يحتمل عدة احتمالات، على النحو التالي:

الاحتمال الأوّل:

• لقد عاش سليمان عليه السلام في زمن كانت الشعوب فيه تتخذ من التماثيل رموزًا لها، لتدل عليها، وعلى مُلكها وقوتها أو ما تشتهر به، ويُحتمَل أنه عليه السلام كان يأمر الجنّ بعمل هذه التماثيل لتدلّ على قوته وقوة جيشه وجنوده من الجنّ والإنس والطير، وأنّ ملكه واسعٌ وكبير، وأغلب الظن بحسب هذا الاحتمال أنه عليه السلام كان يأخذ معه هذه التماثيل في حروبه وغزواته، فيكون معه تماثيل لأسود، وفهود، ونمور، وفِيَلة، ونسور، وصقور، وهو ما كان من عادات الشعوب في حروبها.

وقد كانت كثير من الشعوب تتخذ من التماثيل رموزًا للقوة والمَنعة، فالفراعنة المصريون اتخذوا تمثال (أبي الهول) رمزًا للقوة والعقل، فقد جعلوا رأسه رأس إنسان، وهو ما يرمز إلى العقل والذكاء والحكمة، وجعلوا جسده جسد أسد، وهو ما يرمز إلى القوة والمَنَعة، ولا تزال بعض الدول في العصر الحديث تتخذ تماثيل للأسود وغير ذلك من الطيور، ما يرمزون به إلى القوة، ويضعونها في الميادين.

وهذا الاحتمال احتمالٌ مقبول استنادًا إلى المدلول اللغوي لكلمة:

(تماثيل)، وهو يجعل سليمان عليه السلام يُظهر قوته لأتباعه، ويرفع معنوياتهم ويقوِّي نفوسهم، ومن ناحية أخرى فإنه يُرهب أعداءه من خلال هذه التماثيل التي ترمز للقوة والمَنَعة.

• وهو في الوقت ذاته لا يُشبه غَيره من الملوك الذين يتخذون هذه التماثيل، وذلك بما وهبه الله تعالى من مُلكٍ عظيمٍ لا ينبغي لأحد من بعده، فقد قال عليه السلام لرسول ملِكة سبأ الذي جاءه منها بهدية:

{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا} النمل/ 37، لكنّ اتّخاذه للتماثيل بهذا المعنى يمكِّنه من إظهار قوَّته وقدراته التي وهبها الله تعالى له، ويزيد في تخويف أعدائه.

الاحتمال الثاني:

أن يكون التمثال بمعنى:

(نموذج)، وهو تصوُّر ذهني لجسم معين، أو أدوات معينة يُراد صناعتها، فدولة سليمان عليه السلام دولة صناعية، ولذا فهو يأمر الجنّ أن يعملوا له نماذج لهذه الأجسام والأدوات قبل أن يأمر بصناعة ما يشاء منها.

وهو احتمال يمكن أن يكون مقبولًا، لكنّ الجنّ عندما صنعوا المحاريب لم يمُرّ عملهم بمرحلة عمل نماذج صناعية، فهم قد صنعوا المحاريب والتماثيل والجوابي والقدور، بمجرد صدور أمر سليمان عليه السلام لهم كما نفهم من الآية الكريمة.

الاحتمال الثالث:

وهو ما خطر لي عند تأمُّل المدلول اللغوي لكلمة:

(تماثيل)، وهو أن تكون هذه التماثيل عبارة عن خرائط جغرافية للأرض، فتكون صُوَرًا مصغرة للأرض، وهو ما يفيد معنى التماثيل لُغويًا، فالخرائط صورةٌ للشيء ومثله، حيث يقوم الجنُّ بعمل هذه الخرائط بعد مسح الأرض التي يملكها ويحكمها سليمان عليه السلام، والمناطق المحيطة بدولته، ويقدمونها له عليه السلام، ما يجعله على معرفة ودراية بكل ما على الأرض، فيعرف مساحتها، وتضاريسها، وصحاريها، وبحارها، وأنهارها، وطرقها، فتساعده في اتخاذ القرار المناسب المبنيّ على علم ودراية وفَهم، في مُلكه الواسع الشاسع، وهو ما نجده في قوله تعالى:

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} سبأ/ 12.

وهذا الاحتمال عندي أقرب من غيره لمنطقيَّته، وحاجة سليمان عليه السلام له، وقدرة الجنّ على القيام به.

د. نصر فحجان – غزة

من كتابه/ قضايا تفسيرية تحت الضَّوء

د. نصر فحجان

عميد‏ ‏كلية دار الدعوة والعلوم الإنسانية‏.. ومحاضر دراسات إسلامية - غزة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى