يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} الماعون/ 4-5
جاءت هاتان الآيتان في سياق الحديث عن المشركين الذين يُكذّبون بيوم الدين، فهم قبل كل شيء مشركون ومكذّبون بيوم الدين، فلا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يعملون لما بعد الموت.
وتمضي سورة “الماعون” تذكُر صفات هؤلاء المكذبين التي تكشف شخصياتهم ونفوسهم التي تنكر البعث، فهم لا ترقّ قلوبهم لليتيم الذي انقطع عنه النصير، وانكسر قلبه، فيقهرونه بكل طريقة، فيدُعُّونه ويبعدونه:
{فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} الماعون/2، وهذه صفة كل جبان لئيم.
وهم في الوقت نفسه لا يبحثون إلا عن مصالحهم الضيّقة، ولا يهمُّهم فقر الفقراء، ولا ضعف المساكين، وكل همِّهم أن يتمتعوا ويأكلوا كما تأكل الأنعام:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} محمد/ 12.
وهم يستقوون على كل ضعيف بما آتاهم الله من جاهٍ وسلطانٍ ومال، ففي الوقت الذي لم يسلَم منهم يتيم، فإنهم لا يطعمون المساكين، ولا يشجعون غيرهم على إطعامهم، ولا يعملون على حل مشكلاتهم أو مساعدتهم، وكل هذا لأنهم يكذّبون بيوم الدين، فلا شيء يدفعهم لفعل الخير، وهم لا يحسبون حسابًا للموت، ولما بعد الموت.
إن هؤلاء المكذبين بيوم الدين -ومع هذه الأخلاق الدنيئة- فهم يُصلُّون عند البيت الحرام، ويطوفون بالكعبة، لكنهم يسهَون عن حقيقة ما فرضه الله تعالى عليهم من صلاة أو زكاة أو حج أو أخلاق، فيُصلّون صلاة هم صنعوها، ويؤدون حركات من عند أنفسهم، ويُخرجون في صلاتهم أصواتًا عن هوىً في نفوسهم، يقول الله تعالى عن هؤلاء المشركين:
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الأنفال/ 35.
فصلاتهم (مُكاءٌ وتصدية) أي: صفيرٌ وأصواتٌ يخرجونها من أفواههم، وتصفيقٌ بأيديهم، وضجيجٌ يُحدِثونه عند البيت الحرام ليحُلَّ محلَّ الدعاء والتسبيح والاستغفار، وهم بهذا المُكاء والتصدية إنما يَسهَون عن الصلاة التي جاء بها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عن الله تعالى، ويَسهَون عن معناها وأركانها وطريقتها، وينحرفون عن مُراد الله تعالى فيها، وهو ما صرّحت به الآيات:
{{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} الماعون/ 4-5.
والسهو هنا بمعنى ترك ما يجب عليهم القيام به، فهم تركوا الصلاة التي فرضها الله تعالى، وجاءوا بصلاة من عندهم، فاستحقوا الويل من الله تعالى.
وهم في ذات الوقت يسهَون متعمدين عن الطواف الصحيح الذي جاء به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ويغيّرون فيه كما يشاءون، فيطوفون عراة، ويرمون ثيابهم التي عَصَوا ربهم ربهم بها، ويتركونها مُلقاة على الأرض، ولا يأخذونها، ويذرونها تُداس بالأرجل، حتى تَبلَى، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
(كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة، فتقول: من يُعِيرُني تِطوافًا؟ تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه، أو كلُّه، فما بدا منه فلا أُحِلُّه، فنزلت الآية:
(خذوا زينكم عند كل مسجد).
وهؤلاء المشركون الذين يُكذّبون بيوم الدين، ويُصلّون صلاة مكاء وتصدية، ويطوفون بالبيت وهم عراة، فإنهم يسهَون أيضًا عن الزكاة التي فرضها الله عليهم وعلى آبائهم، فيَدُعُّون اليتيم، ولا يحُضُّون على طعام المسكين، ويُراءون بصلاتهم وطوافهم، ويمنعون كلَّ عَون عن المحتاجين، وفي هذا يقول الله تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فصلت/ 6 – 7.
د. نصر فحجان – غزة