مقالات

د. نصر فحجان يكتب: وتالله لأكيدنَّ أصنامكم

يقول الله تعالى: (وتا الله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) الأنبياء 57..

هذه الآية جاءت على لسان نبي الله إبراهيم عليه السلام وقد رأى قومه يعكفون على تماثيل لهم، يلازمونها، ويؤدّون حركات لها اضطرت إبراهيم عليه السلام أنْ يسألهم: ما هذه التماثيل؟ وماذا تفعلون بها؟ ولماذا تعكفون عليها وتلازمونها؟

 وهو عليه السلام لم تكن له مشكلة مع تماثيلهم سابقًا، ولكنه لما سألهم عنها: (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) أجابوا: (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين)، ومن هنا بدأ عليه السلام يشعر بالمشكلة وخطرها، فهي ليست مجرد تماثيل وصور لأشياء، ولكنَّ قومه يتخذونها آلهة وأصنامًا فيعبدونها، وعندها لم يصبر إبراهيم عليه السلام، وقرّر أنْ يبدأ بمواجهة هذه الوثنية، وهذا الشرك التي يمارسه أبوه وقومه، فقال لهم: {قال لهم لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم لعلهم يرجعون} الأنبياء 54-57.

 هذا الموقف الإيجابي من إبراهيم عليه السلام يسجِّله الله تعالى في القرآن الكريم، فهو لم يقبَل بأنْ تُعبد أشكالٌ وتماثيلُ من دون الله تعالى، لذلك فهو سمّى هذه التماثيل أصنامًا بعد أنْ صرَّح أصحابها بأنهم يعبدونها، وقرَّر عليه السلام مواجهتها وتحطيمها.

 وهذه التماثيل لو لم تكن تُعبَد من دون الله تعالى، لما كانت أصنامًا، فالتمثال صورة الشيء ومثاله، لكنه عندما يعبده الناس فإنه يصير صنمًا، حتى وإنْ كان هذا التمثال عبارة عن مجسم للكعبة المشرفة، فإنْ وضعه الناس أمامهم ليعبدوه، فقد صار صنمًا يُعبد من دون الله تعالى، وإنْ لم يعبد فليس في الأمر مشكلة.

 والكلام نفسه ينطبق على بعض التماثيل المُمْتهَنة في البيوت والمدارس ورياض الأطفال، فإذا كانت التماثيل على شكل حيوانات ومجسمات بأيدي الأطفال يتخذونها للعب والمرح فهي ليست أصناماً، وإذا كانت على شكل عرائس وألعاب للبنات الصغيرات فهي ليست أصنامًا.

 وأهل أصول الفقه يقولون: الأحكام تدور مع العِلَل وجودًا وعَدَمًا، فإذا وجدت عِلّة التحريم وُجِد التحريم، وإبراهيم عليه السلام لم يعترض على التماثيل إلا بعد سؤال أصحابها عنها، فلما عَلِم أنهم يتخذونها للعبادة من دون الله تعالى حطَّمها، وواجَه أصحابها، فهو عليه السلام مشكلته مع الأصنام التي تٌعبد من دون الله، لا مع التماثيل كتماثيل، وقد قال الله تعالى عن سليمان عليه السلام: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات)، فقد كان الجن يعملون له التماثيل لأسباب مختلفة، لكنها لم تكن أصنامًا، فالتمثال لا يكون صنمًا إلا إذا عُبد.

 والصّنميّة يمكن أنْ تكون في البشر أيضًا، ففرعون في مصر كان صنمًا يعبد من دون الله تعالى، وكان يقول: (أنا ربكم الأعلى) النازعات 24، و(ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) غافر 29، ووجد من يطيعه ويصدقه ويعبده: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين) الزخرف 54.

 إنّ هناك أناسًا يعبدون جماداتٍ، وحيواناتٍ، ورموزًا مختلفة، ويعبدون أفكارًا، ومناهج من دون الله، وكل ما يُعبد من دون الله فهو صَنَم، لذلك قال إبراهيم عليه السلام لقومه: (وتالله لأكيدن أصنامكم) ولم يقل: لأكيدن تماثيلكم، فهو ليس له مشكلة مع التماثيل إلا عندما عبدها أصحابها.

د. نصر فحجان – غزة

د. نصر فحجان

عميد‏ ‏كلية دار الدعوة والعلوم الإنسانية‏.. ومحاضر دراسات إسلامية - غزة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights