ليس في القرآن الكريم أو في السُّنة الصحيحة دليلٌ صريحٌ يُبيّن المُراد بهذه الليالي العشر، والمُلاحَظ أنها جاءت نكرةً، وهو ما يُوحي بتعظيمها وتكريمها من غير تعيينٍ أو تحديد..
والمفسرون فيها على أقوال عديدة مختلفة، أذكر أشهرها، لمناقشتها واختيار القول الذي يتّفق مع السياق وقواعد اللغة العربية:
أولاً: أنّها الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، وهو قولُ الرازي والضحاك، وفيها ليلة القدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف فيها، ويقومُها، وكان إذا دخلت العشر الأخيرة من رمضان شدّ المئزر وأيقظ أهله.
وهذا القول لا دليل فيه يشير إلى أنها الليالي التي أقسم الله تعالى بها في أوّل سورة الفجر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعتكف الليالي فقط، بل كان يعتكف الأيام العشر الأواخر من رمضان، فيصوم نهارها، ويقوم ليلها.
ومن ناحية أخرى فقد جاءت (وليال عشر) التي أقسم الله تعالى بها في سورة الفجر نكرة، وغير مُعرَّفة، أما الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان فتكون معروفة ومحددة لكل للناس.
ثانيًا: أنّها العشر الأوائل من شهر (المُحرّم)، وهو قول ابن جرير الطبري وقتادة، وفيها يوم عاشوراء الذي نجّى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون، وهو قول مردود وغير مقبول، لأنّ العشر الأوائل من المحرّم أيامٌ نصوم بعضها كيوم عاشوراء، وليست ليالي.
ثالثًا: أنّها العشر الأوائل من ذي الحجة، وفيها يوم التروية، ويوم عَرَفة، ويوم النحر، وهو ما قاله مجاهد، والسّدي، والكلبي، وابن عباس، والبيضاوي….، لكنّنا نلاحظ أنَّ العشر الأوائل من ذي الحجة هي أيامٌ نصوم بعضها كيوم عَرَفة، وليست ليالي، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بفضل هذه الأيام فقال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله، قال ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء).
وهو ما يجعل هذا القول ضعيفًا أيضًا، ولا يوجد فيه دليل صريح يشير إلى أنّ الله تعالى أقسم بليالي عشر ذي الحجة.
رابعًا: أنّها العَشَرَة الكاملة التي يصومها الحاج، كما في قوله تعالى: (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة)، وهذا قولٌ مردودٌ أيضًا لأنّ الحديث هنا عن أيام يصومها الحاج، وليس عن ليالٍ.
خامسًا: أنّها الليالي العشر التي أتمّها الله لموسى عليه السلام، كما في قوله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)، وهو قولُ مسروق، ومجاهد، وهنا جاءت (عشْر) نكرة، وجاء الكلام عن ليالٍ وليس عن أيام، كما في قوله تعالى: (وليال عشر)، وهو قولٌ مقبولٌ يُوافق القرآن الكريم، وينسجم مع قواعد اللغة ولا يصطدم معها.
سادسًا: أنَّها الليالي حالكة الظلام والسواد، وتلك خمس من أوائل الشهر وخمس من أواخره، وهو قول القاسمي في محاسن التأويل، وهذا القول لا يمكن قبوله، لأنه لا يعتمد على قرينة أو دليل من القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة، أو اللغة.
سابعًا: قال البقلي في روح البيان: هي ليالٍ ستٌ خلق في أيامها السموات والأرض، وليلةٌ خلق فيها آدم عليه السلام، وليلة يومها يوم القيامة، وليلة كلّم الله فيها موسى عليه السلام، وليلة أسري فيها بالنبي عليه السلام، وهو قولٌ لا يمكن قبوله، لأنه يأتي بأمور غيبية لا نجدها في كلام الله تعالى، أو في كلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
ثامنًا: يقول الدكتور محمد راتب النابلسي في تفسيره: “والليالي العشر هي الليالي الفارقة بين السَّنة القمرية والسَّنة الشمسية، فالقمر يدور حول الأرض دورة كل شهر، وينشأ من دورانه سنةٌ قمرية، والأرض تدور حول الشمس، وينشأ من دورانها سنةٌ شمسية، وكلكم يعلم أنّ رمضان في كل عام يقترب عشرة أيام، فهذه الأشهر القمرية إذا وازنَّاها مع الأشهر الشمسية فالفارق ليالٍ عشر…”.
وهذا القول أيضًا نردّه فنقول: إنّ الفارق بين السنة القمرية والشمسية يزيد عن أحد عشر يومًا، وليس عشرة أيام، ثم إنّه لا تدل الآثار والنصوص الصحيحة على تعظيم هذه الليالي الفارقة، ولا يوجد في هذا القول دليل على أنّ هذه الليالي هي الليالي التي أقسم الله تعالى بها.
تاسعًا: يقول الشيخ محمد عبده في تفسيره: والمُراد والله أعلم من (وليال عشر) ليالٍ يتشابه حالها مع حال الفجر، وهي ما يكون ضوء القمر فيها مطاردًا لظلام الليل إلى أنْ تغلبه الظلمة، فكأنه وضع التناسب على شيء من التقابل، فضوء الصبح يهزم ظلمة الليل، ثم يسطع النهار ولا يزال الضوء إلى الليل، وضوء الأهلة في عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام، ثم لا يزال الظلام يغالبه إلى أنْ يغلبه فيسدل على الكون حجبه).
وهذا القول يصطدم مع كون الليالي التي أقسم الله تعالى بها جاءت نكرة، وهذا القول يحددها بأنها هي الليالي الأوائل من كل شهر، ولا يوجد فيه دليل على صحته.
عاشرًا: إنَّ المُراد بقوله تعالى: (وليال عشر) ليالي العشر من ذي الحجة وهي نفسها التي أتمها الله لموسى عليه السلام، فيكون قد واعده الله ثلاثين ليلة في شهر ذي القعدة، وأتمها بعشر ذي الحجة، وهذا القول محتمل، لكنه لا يعدو أنْ يكون محاولة للجمع بين قولين من غير دليل.
القول الراجح:
وبعد هذا العرض لأهم أقوال المفسرين والعلماء، فإنني أذهب في تفسير قوله تعالى: (وليال عشر) إلى ترجيح القول الخامس الذي فسّر قوله تعالى: (وليال عشر) بأنّها تلك الليالي التي أتمَّها الله تعالى لموسى عليه السلام، خاصّة أنّها جاءت نكرة كما في قوله تعالى: (وأتممناها بعشر)، أيْ أتممناها بليال عشر، وفيها التمام الذي يقتضي القسَم والتعظيم، وهي ليالٍ بشكل صريح، ولا يتطرق إليها الاحتمال بأنها أيام فيها نهارات وليال.