يقول الله تعالى:
{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا} البقرة/ 275.
الآية السابقة تنفِّر من الرِّبا، وتصف حال مرتكبي هذه الكبيرة بأنهم:
(لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)، وهي صورة تدل على بشاعة حال آكلي الربا يوم القيامة، حيث يكونون مضطربين حائرين متخبطِّين، لا يعرفون طريقهم، ولا يهتدون سبيلًا.
وقد التبس على كثير من الناس فَهْمُ قول الله تعالى:
{يتخبطه الشيطان من المس}، فابتعدوا عن السياق الذي جاءت فيه الآية، وهو التنفير من الرِّبا، وتقبيح صورته.
فما المُراد بقوله تعالى:
(يتخبطه الشيطان من المس)؟
يتخبَّطُه:
▪ التخبُّط في السير:
السير على غير هدى، نقول: يتخبط في سيره:
يسير يمينًا وشمالًا في حيرة واضطراب.
ونقول:
فلان يخبط خبط عشواء: أي: يأتي ما يأتي بجهالة وبغير تبصُّر،
الشيطان:
من الفعل شَطَن، أيْ:
ضلّ وتاه وابتعد وزاغ، فهو شيطان، أيْ مملوء بالزيغ والضَّلال، ونقول:
أَشْطَنَ الرجل فَرَسَه، أيْ:
أبعَدَها عنه.
▪ والشيطان يكون من الإنس والجنّ كما في قوله تعالى:
{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا} الأنعام/ 112، وكما في قوله تعالى: (الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) الناس/ 5-6.
▪ وشيطان الإنس أخطر وأكثر شرًّا من شيطان الجنّ، لأنه من الناس ويعيش مع الناس، ويتكلم لًغتَهم ويتطبَّع بأطباعهم، ويدعو للشرّ والفساد في ثوب الصديق أو الجار أو القريب أو ابن البلد، والناس يرونه منهم ومثلهم وهم لا يعرفون حقيقته.
مِنْ:
وفي قوله تعالى:
(يتخبطه الشيطان من المس) فإنّ الحرف:
(مِن) جاء بمعنى التعليل، أيْ أنّ تخبُّط الشيطان لآكل الربا يحدث بسبب ما عند آكل الرِّبا من المَسّ، ولا يستقيم أنْ يكون ل (مِن) في الآية الكريمة معنى غير التعليل.
المَسّ:
المَسُّ هو الجُنون، وفي جميع المعاجم العربية فإنّ كلمة (المَسّ) عندما تأتي مُطلقَةً من غير صفة أو إضافة أو تصريف، فهي بمعنى الجُنون والخَبَل وغياب العقل.
وفي قوله تعالى:
(يتخبطه الشيطان من المس)، فإنّ كلمة (المَسِّ) قد جاءت مُطلَقةً غيرَ مُضافة أو موصوفة، أو بصيغة من صيغ الفعل، وجاءت مُعَرَّفة بأل، لتدلَّ على المعنى المألوف الذي يعرفه العرب وهو الجنون.
وتخبُّطُ الشيطان لآكلي الرِّبا في الآية قد جاء بسبب ما عندهم من الجنون وعدم التفكير، حيث لا يستطيعون التفريق بين البيع والرِّبا: (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا)، فالجنون موجود عندهم قبل تخبُّط الشيطان لهم، وتخبُّط الشيطان لهم جاء نتيجة لجنونهم، وضعف عقولهم، وضحالة تفكيرهم.
فالشيطان ليس سببًا في جنونهم، ولكنه لمَّا رآهم مجانين يقولون: (إنما البيع مثل الرِّبا)، استغل ما عندهم من الجنون وضعف العقول، وأخذ يتخبَّطهم ويوجِّهُهم لمزيد من المعاصي وأكل الربا الحرام.
وفي قوله تعالى:
(يتخبطه الشيطان من المس) فإنّ المَسِّ المذكور في الآية كان قبل تخبُّط الشيطان وسببًا فيه، وإنّ التخبُّط من الناحية الزمانية قد حدث بعد المَسِّ ونتيجة له، والمعنى: إنّ الشيطان يتخبَّطه ويوجهه كما يريد، بسبب ما عنده من المَسِّ، ولا علاقة للشيطان بما عنده من المَسّ والجنون.
والناس في حياتهم اليومية يستخدمون مثل هذا الأسلوب إذا أرادوا وصف زوج ينصاع لزوجته في كل شيء، فيقولون:
(زوجته تلعب به يمينًا وشمالًا من جنونه)، أيْ بسبب جنونه وضعف عقله.
ويقولون:
(مات الطفل من الحمى)، إذا أردوا القول: إنَّ الحُمَّى سبب موته، و(سقط الرجل من التعب) إذا أرادوا القول: إنَّ التعب سبب سقوطه.
وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة تبيّن أنّ بعض الأفعال تكون سببًا في أفعال أخرى، وأنّ أفعالُا تكون نتيجة لأفعال أخرى، ومنها:
وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة تبيّن أنّ بعض الأفعال تكون سببًا في أفعال أخرى، وأنّ أفعالُا تكون نتيجة لأفعال أخرى، ومنها:
١- قول الله تعالى:
(وابيّضت عيناه من الحزن فهو كظيم)، فالحزن عند يعقوب عليه السلام سَبَقَ ابيضاض العين وتسبَّب فيه، وهو مثل قوله تعالى:
(يتخبطه الشيطان من المس).
٢- قول الله تعالى: (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم)، فغيظ المنافقين على المؤمنين قد سبق عضَّهم لأناملهم، وكان سببًا فيه، وهو مثل قوله تعالى: (يتخبطه الشيطان من المسّ).
٣- قوله تعالى:
(واضمم إليك جناحك من الرهب)، فشعور موسى عليه السلام بالرَّهْب والخوف سَبَق ضَمَّه لذراعيه وسببٌ فيه، وهو مثل قوله تعالى:
(يتخبطه الشيطان من المس).
والشيطان يتخبّط مِن الناس مَن كان في إيمانه ضعف، ومَنْ لا يستخدم عقله، فيوجِّهه أينما أراد، وكيفما أراد، ويجعله على غير هدى، فيعيش في الدنيا يتنقل بين المعاصي بشكل عشوائي، ويكون في الآخرة من أهل النار.
لكنّه لا يتخبّط المؤمن العاقل، ولا يسيطر عليه، فهو رغم ما يجد من وساوسه وإغوائه، إلا أنّه لا ينصاع له ولا يطاوعه، فيعيش في الدنيا قويًا سعيدًا بإيمانه، وفي الآخرة هو من أهل الجنة.
ولا يملك الشيطان مع ابن آدم غير الوسوسة، وهو لا يستطيع إجبار أحد على فعل معصية، أو ترك طاعة، يقول الله تعالى:
(وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) إبراهيم 22، فهو لا يملك إلا الوسوسة، بل ها هو يتبرأ من أتباعه، ويتخلى عنهم.
وفي آية أخرى نجد أنّ الذين يتبعونه قد اتبعوه من تلقاء أنفسهم، لضعفهم وانخداعهم به، وعدم استخدام عقولهم، فجعلوه سيدًا لهم، وسلطانًا عليهم، يقول الله تعالى: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) النحل 99، فلا سلطان له على المؤمنين الذين يتوكلون على ربهم، لأنهم يقاومونه، فينتصرون على وساوسه.
وفي الحديث الصحيح عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(… الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) صحيح أبي داود/ الألباني 5112، فالشيطان لا يملك إلا الوسوسة، وكيده مع ابن آدم لا يتجاوز الوسوسة.
وعلى الرغم من هذه النصوص الواضحة التي تؤكد على أنّ الشيطان لا يملك في حربه مع ابن آدم إلا الوسوسة، فإنه لا يزال بعض المسلمين الذين خلقهم الله أحرارًا، يحاولون أنْ يُقنعوا أنفسهم بأنهم أَسْرَى للشيطان، وأنهم لا يستطيعون الهروب منه، أو إبعاده، ظانّين بأنه يَسكُنهم، ويتحكم في تصرفاتهم وأفعالهم واختياراتهم، ويستشهدون بحديث صحيح لم يفهموا مُراد رسول الله عليه الصلاة والسلام منه.
والحديث:
عن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا فأتيته أزوره ليلًا، فحدّثتُه ثم قمتُ فانقلبتُ، فقام معي ليقلبني، – وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد – فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: إنَّ الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم، وإنِّي خشيت أنْ يقذف في قلوبكما سوءًا، أو قال: شيئا) صحيح البخاري 3281.
والحديث لا يُشير مطلقًا إلى ما فَهِمه البعض من أنّ الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم بالمعنى الحِسِّي، وإلّا فكلّ بني آدم تجري الشياطين في دمائهم، وتسكن أجسادهم، وهذا ما لا يُفهَم من الحديث، بل إنّ هذا يخالف ما جاء به القرآن الكريم، وهو أنّ الشيطان لا يملك غير الوسوسة كما أسلفنا.
وقوله عليه السلام: (إنّ الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم) هو كناية عن ملازمة الشيطان للإنسان، وعدم مفارقته له، ويدلُّ على هذا ما قاله النبي عليه السلام للرجلين في نفس الحديث:
(خشيتُ أنْ يقذف في قلوبكما سوءًا)، أيْ خشيت أنْ يوسوس لكما الشيطان بالسوء.
ونحن نستخدم في بعض الأحيان نفس التعبير الذي استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: (إنّ فلسطين تجري في دمائنا مجرى الدم)، أو:
(إنّ القدس في عروقي وقلبي)، فهل يفهم أحدٌ من العبارة أنّ فلسطين تجري في دمائنا حسِّيا؟
أم أنّ المعنى هو:
إننا نحب فلسطين، وإنّ قلوبنا تتعلق بها ولا تنساها؟
▪ إنّ قول الله تعالى:
(يتخبطه الشيطان من المس)، يُشير إلى أنّ الشيطان له مهمة لا يتوقف عنها، وهي إغواء الإنسان وإضلاله، وهو يبحث عن أيّ وسيلة لتحقيق مهمته، ومنها:
أنه يتلاعب بأصحاب العقول الصغيرة، والقلوب المضطربة، فيوجهها حيثما أراد بعيدًا عن الله تعالى، لكنه لا علاقة له بالتسبب في المَسِّ والجنون لدى أتباعه، فهو لا يملك غير الوسوسة.
د. نصر فحجان – غزة