إن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ليست مجرد كلمات نرددها أو نحفظها فقط، وإنما لها آثارها التي تتجلى في الأنفس والآفاق، وفي الحياة والأحياء، وهذه هي القيمة الحقيقية لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وهو مقتضاها نفسها؛ إذ كيف نفهم اسم الله: “الحي” أو “القيوم” أو “المهيمن” أو غيرها من أسماء تدل دلالة قاطعة على وجود الله ورعايته لهذا الكون، وعنايته بهذا الخلق، وليس كما قالت بعض المتفلسفة: أنه خلق الخلق وتركه! سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وأسماء الله تنقسم قسمين كما هو معروف: أسماء جمال، وأسماء جلال، فأسماء الجمال، مثل: الرحيم، الودود، اللطيف، الغفور، وعلى الإنسان أن يتخلق بها بقدر طاقته البشرية، وأسماء الجلال، مثل: القاهر، المنتقم، المتكبر، وعلى المؤمن التعلق بها دون التخلق، فهي لله وحده لا ينازعه فيها أحد من مخلوقاته، وعلى المؤمن أن يمسك نفسه عن القهر والتكبر والجبروت.
التأمل في آثار الأسماء والصفات من مصادر الإيمان
إن أول باب للتعرف إلى الله تعالى هو أسماؤه وصفاته، بحفظها، وترديدها، والتفقه في معانيها، والأهم من هذا كله هو ملاحظة آثارها، في الحياة، ورصد تجلياتها على الكون والأحياء؛ فإن هذا مما يضاعف اليقين، ويزيد الذين آمنوا إيمانا.
وإلا فإن الاقتصار على حفظها وترديدها فقط لا يغني شيئا، وهو ما عبر عنه أبو حامد الغزالي بقوله: “اعلم أن من لم يكن له حظ من معاني أسماء الله تعالى إلا بأن يسمع لفظه، ويفهم في اللغة تفسيره ووصفه، ويعتقد بالقلب وجود معناه في الله تعالى، فهو مبخوس الحظ نازل الدرجة، ليس يحسن أن يتبجح بما ناله”. المقصد الأسنى: 26.
ومن هنا فإن حظ المقربين من الأسماء الحسنى والصفات العلى ثلاثة حظوظ – كما قرره أبو حامد في المقصد الأسنى: 27 – حيث قال:
الحظ الأول: معرفة هذه المعاني على سبيل المكاشفة والمشاهدة، حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ، وينكشف لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافا يجري في الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة، التي يدركها بمشاهدة باطنه لا بإحساس ظاهر.
الحظ الثاني: استعظامهم ما ينكشف لهم من صفات الجلال على وجه ينبعث من الاستعظام يشوقهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات، ليقربوا من الحق قربا بالصفة لا بالمكان، ولن يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشراقها إلا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة، وعشق لذلك الجلال والجمال، وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنا للمستعظم بكماله، فإن لم يكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة.
الحظ الثالث: السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات. والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبه يصير العبد ربانيا، أي قريبا من الرب تعالى، فإنه يصير رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة، فإنهم على بساط القرب، فمن ضرب إلى شبه من صفاتهم نال شيئا من قربهم بقدر ما نال من أوصافهم المقربة لهم إلى الحق تعالى. ا.هـ.
أسماء وصفات الجلال في طوفان الأقصى
إن المتأمل في معركة طوفان الأقصى ومشهدها العظيم ليدرك تماما أن صفات الله وأسماءه المتعلقة بالجلال تتجلى أعظم ما يكون التجلي في هذه المعركة الفاصلة، وكذلك أسماء الجمال، ولكن لها حديث آخر.
فتأملوا – على سبيل المثال فقط – اسم الله “القاهر” أي: الغالب، فكل شيء تحت قهر الله وسلطانه، فهو سبحانه القاهر الذي يقهر الأشياء ويجريها على ما يشاء، وقهره سبحانه قهر عدلٍ وحقٍ منزّه عن الظلم ﴿وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ﴾ [الأنعام ١٨].
تتبعوا آثار هذا الاسم الجليل على العدو الصهيوني وتجليات القهر عليه؛ فهو ما زال يكرر تهريفاته وتخريفاته بأنه لن يتوقف حتى تحقيق النصر الكامل والقضاء على “حماس”، رغم أن أهل الرأي من الصهاينة قالوا إن القضاء على حماس عسكريا غير ممكن، فأي شعور بالقهر يشعر به “مجلس الحرب” الإسرائيلي ومن عاونه؟
تأملوا محاولات العدو في استرداد أسراه، لم يستطع أن يستنقذ أسيرا واحدا إلا بعد أن قتله هو أو عبر صفقة من خلال الهدنة والوسطاء، لكنه بقدراته العسكرية الجبارة لم يستنقذ أسيرا واحدا، فأي قهر يشعر به هذا العدو، وأي تجلٍّ لهذا الاسم العظيم من أسماء الجلال يتجلى أمامنا؟!
تأملوا “سمعة” العدو، وجيشه الذي “لا يُقهر”، كيف أصبحت في التراب، وكيف مرغته كتائب المقاومة بأسلحتها اليدوية البدائية في التراب، وانظروا لهذا الكم الهائل من الضحايا العسكريين في الجانب الإسرائيلي في مقابل عدم تحقيق أي أهداف عسكرية لهذا العدو، فأي حسرة وأي قهر يشعر به؟!
تأملوا النفقات الهائلة التي ينفقها هذا العدو على الحرب، وانظروا إلى كم المساعدات الهادرة التي تصل لهذا العدو علنا من أميركا وبعض بلاد أوربا، ثم يذهب هذا كله أدراج الرياح دون تحقيق أي فائدة تذكر إلا قتل النساء والأطفال وتهديم المجتمع، فأي حسرة وأي قهر يتجسد في هذا المشهد؟!
المجتمع الإسرائيلي يخرج دوما منددا باستمرار الحرب، ومطالبا باسترداد أسراه؛ حتى تطور الأمر بحكومة العدو إلى اعتقال الصهاينة من الشوارع منعا لهم من التظاهر أو الاحتجاج، وهذه سابقة لم تحدث من قبل، فأي قهر وصل إليه هذا العدو وحكومته ومجلس حربه؟!
وهكذا إذا تتبعنا آثار اسم واحد فقط من أسماء الجلال على مشهد واحد فقط في بلد واحد فقط، لامتلأت قلوبنا بالإيمان واليقين، فكيف إذا تتبعنا بقية الأسماء؟ ولهذا نقرر بيقين أن التأمل في آثار الأسماء الحسنى هو مصدر عظيم من مصادر الإيمان.
الله تعالى هو المتفرد بالقهر
ومن تجليات هذا الاسم العظيم “القاهر” وفقه معناه والوقوف على حقيقته أنه ورد في القرآن الكريم بصيغة “القاهر”، كما ورد بصيغة “القهار”، وهي صيغة مبالغة من “القاهر”، ومن العجيب أن صيغة “القهار” لم تأت منفردة وإنما مقترنة باسم الله “الواحد”، تكرر هذا في ستة مواضع في القرآن الكريم، ها هي بترتيب المصحف:
﴿یَـٰصَـٰحِبَیِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابࣱ مُّتَفَرِّقُونَ خَیۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ﴾ [يوسف ٣٩].
﴿قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ لَا یَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعࣰا وَلَا ضَرࣰّاۚ قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِی ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ خَلَقُوا۟ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَـٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَیۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُوَ ٱلۡوَ ٰحِدُ ٱلۡقَهَّـٰرُ﴾ [الرعد ١٦].
﴿یَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَیۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتُۖ وَبَرَزُوا۟ لِلَّهِ ٱلۡوَ ٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ﴾ [إبراهيم ٤٨].
﴿قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ مُنذِرࣱۖ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ﴾ [ص ٦٥].
﴿لَّوۡ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن یَتَّخِذَ وَلَدࣰا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ سُبۡحَـٰنَهُۥۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ﴾ [الزمر ٤].
﴿یَوۡمَ هُم بَـٰرِزُونَۖ لَا یَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَیۡءࣱۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡیَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَ ٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ﴾ [غافر ١٦].
هذه الآيات بسياقاتها ومعانيها تستحق وقفة منفردة، تتأمل السياق، وتجلي المعاني، وتبين آثارها في الحياة والأحياء، وتضاعف الإيمان بالله وحكمته وإرادته.
واقتران اسم «الواحد» باسم «القهار» بصيغة المبالغة هذه يشير إلى أن الله هو المتفرد بهذا القهر، لم يشاركه فيه معه أحد، وهذا ما يرسخ الإيمان بقدرة الله وطلاقة هذه القدرة، وأنه لا شريك له في حكمه، ولا معقب لقضائه، ولا راد لفضله؛ يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم.
***
هذه صفحة واحدة من صفحات أسماء الجلال، ومحاولة لرصد آثارها أو بعض آثارها على مشهد واحد فقط من المشاهد الماثلة أمامنا، فكيف لو طردنا هذه المحاولة مع هذا الاسم فقط «القاهر» على مظاهر الحياة جميعا، وأحداثها كافة، ومجرياتها كلها؟ لا شك أن الإيمان سيتضاعف، واليقين سيتجذر، وكل نجاح أو فلاح في هذه الحياة أو الحياة الأخرة فهو مرهون بصدق الإيمان.