بحوث ودراسات

د. وصفي أبو زيد يكتب: الحكم الرشيد بين مقاصد الشرع وإكراهات الواقع

خلق الله تعالى الخلق وفطرهم على أمور، منها أن الحياة الإنسانية لابد لها من نظام تُسيّر به، وتمشي عليه، وجعل هذا مركوزا في الحيوانات، فالغابة لها حاكم وهو الأسد، وأسراب الطير في السماء لها قائد يوجهها فتتبعه، وعالم النمل معلوم نظامه وترتيباته، وهذا هو المعنى الذي التفت له الشاعر الأموي أبو الأسود الدؤلي، واضع علم النحو، حين قال:

لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم ** وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا

وَالبَيتُ لا يُبتَنى إِلّا لَهُ عَمَدٌ ** وَلا عِمادَ إِذا لَم تُرسَ أَوتادُ

فَإِن تَجَمَّعَ أَوتادٌ وَأَعمِدَةٌ ** لِمَعشَرٍ بَلغوا الأَمرَ الَّذي كادوا

وإذا كان هذا معهودا ومعلوما بالضرورة من حياة الكائنات، فكيف بحياة الإنسان؟ ثم كيف به في ظلال النظام الإسلامي عقيدةً وشريعة، وأخلاقا ونظاما، ودستورا للحياة يبسط سلطانه فيها على كل شيء؟!

لقد نزل القرآن الكريم وبينت السنة النبوية معالم الاجتماع البشري الذي لا يمكن أن نتصوره بغير نظام يدبّر حياة الناس، ويقيم مصالحهم، ويُسيّر أمورهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، ولهذا كان تعريف ابن عقيل للسياسة فقال: «السِّيَاسَةُ: مَا كَانَ فِعْلًا يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ» ([1]).

التأكيد على وجوب الحكم رغم أنه فطرة

ورغم أن النصوص الشرعية لا تؤكد كثيرا على ما تدعو إليه النحيزة السوية وما فُطر عليه الناس؛ فإن الفقهاء أكدوا على وجوب إقامة الحكم أو نصب الحاكم؛ فهذا الماوردي يقول: «الْإِمَامَةُ: مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَعَقْدُهَا لِمَنْ يَقُومُ بِهَا فِي الْأُمَّةِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ شَذَّ عَنْهُمْ الْأَصَمُّ.

هَلْ الخِلَافَةُ وَاجَبَةٌ بِالشَّرْعِ أَمْ بِالْعَقْلِ؟ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا: هَلْ وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ لِمَا فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ التَّسْلِيمِ لِزَعِيمٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّظَالُمِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فِي التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَلَوْلَا الْوُلَاةُ لَكَانُوا فَوْضَى مُهْمَلِينَ، وَهَمَجًا مُضَاعِينَ» ([2]). وما هذا الكلام إلا من أجل تشكيك البعض في أن وحي السماء قد نزل للحكم والسيادة، وفي عصرنا الحديث رُفض هذا رفضا قاطعا على لسان علي عبد الرازق وغيره، فكان لابد من بيان ذلك والاستدلال له.

الأنبياء جاءوا بالحكم وللسيادة بالشرع

وقد أرسل الله الأنبياء ليقيموا حكمه في الأرض، ويبسطوا سلطان ما أوحى إليهم به على الخلق، تاركين الناس وما يدينون، غير مُكرهين لهم على اعتناق شيء أو الإيمان بشيء، وهذا لا يخص داوود وسليمان فقط، حين قال الله له:

﴿یَـٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَـٰكَ خَلِیفَةࣰ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَیُضِلَّكَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَضِلُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدُۢ بِمَا نَسُوا۟ یَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ﴾

[ص ٢٦]،

وقال عن سليمان:

﴿وَوَرِثَ سُلَیۡمَـٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّیۡرِ وَأُوتِینَا مِن كُلِّ شَیۡءٍۖ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِینُ﴾

[النمل ١٦]،

أي ورثه في الحكم والعلم، وإنما المتأمل في سير الأنبياء كما ذكرها القرآن الكريم يجدها عامة في كل نبي، ففي التوراة مثلا قال الله عنها:

﴿إِنَّاۤ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِیهَا هُدࣰى وَنُورࣱۚ یَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِیُّونَ ٱلَّذِینَ أَسۡلَمُوا۟ لِلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلرَّبَّـٰنِیُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُوا۟ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُوا۟ عَلَیۡهِ شُهَدَاۤءَۚ فَلَا تَخۡشَوُا۟ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِی ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾

[المائدة ٤٤]،

وهكذا حتى ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمره بأن يحكم بين الناس بما أنزل إليه.

ومن ذلك قوله تعالى:

﴿وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمُهَیۡمِنًا عَلَیۡهِۖ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ عَمَّا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ ..﴾ [المائدة ٤٨]، وقوله: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن یَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ ..﴾ [المائدة ٤٩]، وقوله: ﴿سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَاۤءُوكَ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن یَضُرُّوكَ شَیۡـࣰٔاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ﴾

[المائدة ٤٢].

والآيات في هذا كثيرة.

الحكم الرشيد في تاريخنا

تمتعت الأمة المسلمة بالحكم «الرشيد» عقودا من الزمان، في عهد النبوة والخلافة الراشدة إلى عام 40 للهجرة، وبعدها لا يمكن أن نصف «الحكم» بـ«الرشيد» لأنه فقد ركنا من أركانه وهو الشورى التي توارت مع توريث الحكم، وهو ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله، كما يرويه حذيفة بن اليمان، قال: «كنّا قُعودًا في المسجدِ مع رسولِ اللهِ ﷺ، وكان بَشيرٌ رَجُلًا يَكُفُّ حديثَه، فجاء أبو ثَعلَبةَ الخُشَنيُّ، فقال: يا بَشيرُ بنَ سعدٍ، أتَحفَظُ حديثَ رسولِ اللهِ ﷺ في الأُمَراءِ؟ فقال حُذَيفةُ: أنا أحفَظُ خُطبَتَه، فجَلَسَ أبو ثَعلَبةَ، فقال حُذَيفةُ: قال رسولُ اللهِ ﷺ: تكونُ النُّبوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ النُّبوَّةِ، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء اللهُ أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا عاضًّا، فيَكونُ ما شاء اللهُ أنْ يكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا جَبريَّةً، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ نُبوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ» ([3]).

ونحن اليوم على وشك انتهاء الحكم الجبري بعد انتهاء الملك العاض، وهذا يجعلنا نؤكد أن «الحكم الرشيد» هو معنى يوافق مصطلح «على منهاج النبوة»؛ حيث إن منهاج النبوة الموصوف بالـ«الرشد» هو ما كان قائما على الاختيار الحر من الرعية وبخاصة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويتأسس على تحقيق مصالح العباد بحراسة الدين وسياسة الدنيا به كما قال الماوردي.

الغزوة الاستعمارية

ومع ضعف الخلافة العثمانية -التي يمر على سقوطها اليوم مئة عام- تمكن المستعمر من بلادنا، وغيّر وبدّل، وحول المفاهيم وحرّفها، وغير الهوية الإسلامية، بإحلال القوانين الغربية محل الشريعة الإسلامية، وإحلال اللغات الغربية محل اللغة العربية، وصبّ العالم الإسلامي في قالب العالم الغربي الذي يقوم على المركزية والصراعية؛ حيث تسعى لفرض نموذجها على العالم وإقصاء النماذج الأخرى على عكس ما يفعله الإسلام حين يحكم فيتيح الساحة للجميع ويقدر الجميع ويكفل حق الجميع في التعبد والحياة في ظلال الدولة الإسلامية بقيمها وأخلاقها.

ونتيجة لهذا التغيير والتبديل، وتَساوُقِ عدد ليس قليلا ممن يسمون أنفسهم «مثقفين»، وتمكين الأنظمة لهم في المؤسسات الثقافية والإعلامية حدث هناك تغيير في قناعات المسلمين وثقافتهم، كما أحدث هذا إغراء لمثقفين من المفترض أن يكونوا أصلاء عقلاء فأصبحوا يسيرون في هذا الركاب؛ إظهارا لـ«ثقافيتهم» و«تنويريتهم»، وأنهم يتبنون -بزعمهم- إسلاما «متنورا» و«وسطيا» و«واعيا» بما انعكس سلبا على تشكيل العقل المسلم: استلابا حضاريا، وتشكيلا غربيا فكريا، وصبا لهذه الأنماط من الفكر والعقل في قالب النموذج الغربي!

ومن ضمن هذه المفاهيم التي تعرضت لهذا التشويه والتغيير كل ما يتعلق بـ«الحكم الإسلامي»، و«النظام السياسي الإسلامي»، وأنه لا نظام سياسي في الإسلام ولا نظام حكم إسلامي، لا سيما بعد سقوط أو إٍقاط الخلافة الإسلامية، وأصبح كل من ينادي بالحكم الإسلامي أو يرى أن الإسلام يتضمن نظما إسلامية ومنها «نظام الحكم في الإسلام» أو «النظام السياسي الإسلامي»، أصبح موضع شبهة وتندّر، ومحلا للوصف بالتخلف والجهل والرجعية!

الواجب الآن نحو الحكم الرشيد

لا نملك أمام هذا التشويه الغربي، والهجوم الاستشراقي على مفاهيمنا الإسلامية ومصطلحاتنا الشرعية لا سيما بعد أن أوشك «الحكم الجبري» على الرحيل، إلا أن ندحض هذا الغزو، ونكشف عواره، ونبين ضلاله، ونبرز ما عندنا من معالم حقيقية للنظام السياسي الإسلامي، وأنه نظام بحق يغاير بقية الأنظمة عبر تاريخها، وشاهدُ ذلك أن هذا النظام حكم وله تجربة استمرت أربعين سنة، وكان ما بعدها مقارب له لولا التوريث فقط، فنحن إذن لا نتكلم في الهواء، أو من الأبراج العالية، وإنما نتحدث من منطلق عقدي، ونصدر عن تجربة عملية عاشت الدنيا معها كلَّ قيم الحق والعدل والخير والجمال!

وإن المقاصد التي يحققها النظام السياسي الإسلامي أو نظام الحكم في الإسلام لا يمكن أن يقف أمامها أحد، ولا أن ينكرها أحد؛ إذ إنها تدور مع حراسة الدين، وتستهدف سياسة الدنيا به، وإذا قلنا «الدين» فهو من عند الله، والله يعلم من خلق، وهو لطيف بعباده، وإذا قلنا: “سياسة الدنيا به” فهي سياسة تحقق مقاصد الشرع، وترعى مصالح الناس.

الهوامش:

([1]) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم: 12. دار البيان.

([2]) الأحكام السلطانية: 15. دار الحديث. القاهرة.

([3]) أخرجه أحمد (١٨٤٠٦) واللفظ له، والطيالسي (٤٣٩)، والبزار (٢٧٩٦)، وقال شعيب الأرناؤوط: «إسناده حسن».

د. وصفي أبو زيد

أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى