الزعمُ بأن “الأزمة في كتابات سيد قطب الدينية أتت من غياب أو ضعف التأسيس العلمي والشرعي عنده، وأنه في المقام الأول أديب وناقد” هو زعم يحمل معاني كلها سلبية في نظري، وهي:
أن من زعم هذا لم يقرأ سيد قطب جيدًا، وإن ادّعى ذلك، ولم يفحص ما تحدث به سيد قطب في “ظلاله” من آراء واجتهادات، سواء في تفسيره لآيات الأحكام، أو اختياراته وترجيحاته في مباحث علوم القرآن، من مكي ومدني، وأسباب نزول، وإعجاز علمي وبلاغي، أو الناسخ والمنسوخ، أو المحكم والمتشابه، أو غير ذلك من مباحث علوم القرآن، له في هذا كله اجتهادات وترجيحات، بُنيتْ عليها رسائل ماجستير ودكتوراه.
وصحَّ عندي أن الميدان الأبرز لاجتهاد سيد قطب هو مجال العقيدة، مجال الإيمان، الذي جدد فيه الإيمان، كما أتى به الأنبياء أول مرة، وكما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصنع من الإيمان ملحمة للحياة يتحقق فيها مقاصده وغاياته، وتجدد بها معانيه ومبانيه.
وحسبنا أن هناك رسالة دكتوراه بعنوان: “سيد قطب ومنهجه في العقيدة” للأستاذ الدكتور ماجد شباله، جاءت في (2492) صفحة، تجدون ملفها على هذا الرابط: اضغط هنا
وبيان سيد قطب لعظمة التشريع لم نجدها في تفسير مثل الظلال، وبيان معالم هذه العظمة، وتوضيح شمول هذه العظمة، بحيث من قرأ هذه العالم التي أوضحها لهذا التشريع العظيم يزداد إيمانًا، ولا يكون هذا إلا بعد التشبع بالتكوين الشرعي، وإلا فكيف يبين عظمة التشريع من لم يتعلم هذا التشريع ويتكوّن منه؟!
مجال آخر يحتاج لكشف واستقراء عند سيد قطب، وهو مزلة أقدام وأفهام في عصرنا، ألا وهو مجال السياسة، وميدان النظرية السياسية، التي يرى البعض اليوم أن الإسلام لا يتضمن نظامًا سياسيًّا، وما هو إلا مجموعة من المبادئ، وأن أعظم ما وصلت إليه البشرية هو النظام السياسي الغربي! فقدم سيد قطب في هذا المجال ما يستحق الدراسة والكشف عن معالمه عنده.
كما أن محاولات قصر سيد قطب على المجال الأدبي – وهو من كبار الأدباء والنقاد في مصر والعالم العربي في وقته -، وتجريده من مجال الفكر والإصلاح الإسلامي، هي محاولات ليست بريئة؛ إذ إن ما أسهم به سيد قطب في مجال الفكر يُمثِّل محطة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي وتقديم الأجوبة على الأسئلة الوجودية الكبرى التي حار فيها كبار المفكرين وفطاحل الفلاسفة، ومن أراد مصداق ذلك فليقرأ كتاب: “مقومات التصور الإسلامي”، المقومات وليس الخصائص، وهو كتاب فارق يدلك على مكانة سيد الفكرية والتجديدية في هذا المجال.
فضلا عن مصطلحاته الفكرية التي صكَّها، وصارت مثلا من بعده: “هذا الدين”، “المستقبل لهذا الدين”، “جيل قرآني فريد”، وما ذكره من خصائص للتصور في كتابه الخصائص، يسجل تاريخيًّا إضافاتِهِ وبصماته الفكريةَ التي ظهرت في كل من كتب في هذه الموضوعات بعده.
المشكلة في كتابات سيد قطب الدينية لم تأت من “غياب”! أو “ضعف” التأسيس الشرعي، وإنما أتت من “غياب” أو “ضعف” القدرة على استيعاب ما كتبه سيد، وفحصه بشكل دقيق، ومقارنته بغيره من علماء التفسير الذين بذلوا جهودا جبارة في هذه السبيل، والاطلاع الواعي على ما قدمه في ميدان الفكر الإسلامي، ومجال السياسة والإصلاح والتجديد، ومقارنته بغيره من المفكرين؛ إذ يبدو عملاقًا بينهم.
كما أن الأنظمة المستبدة التي يُزعجها سيد قطب ويُمثل مشروعُه الفكري خطرًا على استبدادها وطغيانها، والنظام العالمي الذي قال كيسنجر عنه في كتابه: “النظام العالمي”: “إن كتاب المعالم لسيد قطب إعلانُ حــ..ربٍ على النظام القائم”، هذه الأنظمة اخترعت مقولاتٍ عن سيد قطب، وألصقت به تُهمًا لصرف الناس عنه، وإثارة الغبش حول فكره وإضافاته وتجديده، وكان من محاسن القدر أن هذه الحملات المحلية والإقليمية والدولية لا تزيد الناس إلا إقبالًا على كتب سيد وفكر سيد وترجمة كتبه إلى لغات العالم.
ومن أسفٍ أننا نجد من بني جلدتنا من يردد ما تقوله الأنظمة المستبدة؛ فيهرفون بما لا يعرفون، ويسيئون من حيث أرادوا الإحسان، ويميلون من حيث أرادوا الإنصاف والموضوعية، فلم ينصفوه كما أنصفه كيسنجنر الذي وقف على حقيقة مشروعه وخطره على النظام العالمي، فيا ليت قومي يعلمون!