الجمعة نوفمبر 1, 2024
بحوث ودراسات

د. وصفي أبو زيد يكتب: نشر ثقافة الجهاد من واجبات العصر

مشاركة:

من كانت في نفسه مثقال ذرة من شك نحو العداء الغربي للإسلام، وإعلان الحرب كل معنى يتصل به، وبخاصة ما يتعلق منها بالجهاد وأهله، فقد بددت معركة طوفان الأقصى هذه الذرة أدراج الرياح، بعدما تابعناه من تكتلات وتوحد غربي مع عمالة وتواطؤ عربي على قطاعٍ لا تتجاوز مساحته 360 كيلو متر، لا لشيء إلا لأن فيه كتائب مجاهدة، وكذلك ما تابعناه من تصريحات على لسان قادة الغرب وسياسييه، وآخرها ما جاء على لسان رئيس الكيان الصهيوني إسحاق هرتسوغ لقناة (MSNBC) الأمريكية: “إن الحرب في غزة ليست بين إسرائيل وحماس فقط، بل هي حرب لإنقاذ الحضارة الغربية”.

وبفعل الغارة الصليبية الغربية والشرقية على الإسلام عقيدةً وشريعةً وحضارةً، وبسببٍ من إعلان الحرب على ما يسمونه (الإرهاب) في المشارق والمغارب، أصبح كثير من العلماء والحركات الإسلامية يخشى من استخدام كلمة (جهاد)، بل يتوارى ويتهرب من الحديث عنه؛ حتى لا تصيبه نفحة من عذاب الغرب الصهيوأمريكي الذي يحارب المسلمين تحت راية (الإرهاب)، وحتى لا يصنف من الإرهابيين ولا يوضع شخصه أو هيئته على قوائم (الإرهاب).

فهم الجهاد خطأ بين طائفتين

وهذا التراجع أو الاستخذاء أو التبري من الجهاد في الإسلام شكلا ومضمونا أدى إلى إيجاد فراغ كبير تمددت فيه فئتان من الناس:

الأولى: هي فئة معادية للإسلام وللجهاد فيه، تريد أن تقتلعه من جذوره، وتلغي فريضته من الدين، وتفرغه من مضمونه الحقيقي، وتجعل الجهاد فقط هو جهاد النفس، وجهاد الشهوات، وجهاد الدنيا، ولا علاقة للجهاد بالدفاع عن شرف الأمة، والذود عن حياضها، والذب عن شرفها، وحماية مقدساتها، وتحرير الناس من المستبدين، ومنحهم الحرية التي ولد الإنسان بها.

الثانية: هي فئة فهمت الجهاد في الإسلام فهما مخطئًا من حيث الأصل، ونزَّلتْه تنزيلا منحرفًا من حيث التطبيق، فغالت في فهمه وتنزيله، وأفسدت مضمونه، وشوهت حقيقته باسم الخلافة تارة، وباسم قتال العالم تارة أخرى.

وغاب عُدُول هذه الأمة -إلا من رحم الله!- الذين ينفون عن الإسلام تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتخريف المخرِّفين، وإجرام المجرمين.. نعم، تراجع كثير من علماء الأمة ومؤسساتها الدعوية عن استخدام لفظ الجهاد وبيان مفهومه، وإعلاء كلمته بشرف ورجولة واعتزاز، فتمددت في فراغها هذه التيارات، فأساءت للإسلام من حيث تريد أو لا تريد.

شرف الجهاد في الإسلام وجرائم الغرب

ونحن -باعتبارنا مسلمين- بحمد الله ليس عندنا ما نتوارى منه، ولا ما نستنكف عنه؛ فديننا جاء لإسعاد البشرية، وإنقاذها من براثن القهر والظلم والبغي والاستبداد إلى آفاق الحرية والكرامة والعزة والعدالة.. جاء الإسلام لخير البشرية كلها في الدنيا والآخرة.

وفي الوقت الذي ينعي فيه الغرب الصليبي والصهيوأمريكي على تصرفات بعض المسلمين هنا أو هناك يتعامى الغرب ويتناسى جرائمه التي فعلها بالمسلمين على مر العصور، ويخفي مجازره التي قتل فيها مئأت الآلاف بل الملايين من المسلمين ودعاتهم وعلمائهم.. ويسدل الستار على جرائمه المعاصرة وضحاياه في عالمنا العربي والإسلامي في كل مكان من الأطفال والشيوخ والنساء الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا!

أهمية التمسك بالجهاد وفقا لمفهومه الوسطي

في ظل هذه الغارة العاتية والريح الهوج التي تريد استئصال شأفة الإسلام وتوقف مده الآتي وزحفه القادم، وفي ظل التخويف من الجهاد الإسلامي الحقيقي.. يجب على الأمة المسلمة، والعلماءُ منهم في الصدارة، ألا يتخلوا عن الجهاد، وألا يتواروا عنه، أو يستنكفوا منه، فعلينا استحضاره في الساحة، وذكره في الميدان، وبيان شرفه وعظمته ورقيه، ومقارنة هذا بما يفعله الغرب من أفعال لا أخلاقية، ومن كيل بألف كيل.. أجل، إننا بحاجة إلى إعادة الاعتبار لذروة سنام الإسلام لأسباب كثيرة:

منها: أن مصطلح الجهاد ران عليه غبش كثير، وشَوَّهت صورتَه أفهامٌ وأفعالٌ لدى جماهير الأمة المسلمة في المشارق والمغارب، بفعل بعض الذين ينتمون إلى جلدتنا، وينتسبون إلى ديننا، ويستخدمون لتأصيل ذلك كلاما لعلماء قضوا نحبهم رافعي رؤوسهم، ولا علاقة لكلامهم بواقعنا، ولا صلة لاهتماماتهم وسياقاتهم باهتماماتنا وسياقاتنا، ومن هنا نحتاج إلى مَن يُجلِّي فريضة الجهاد في الإسلام، ويجدد حقيقته، بمفهومه الشامل، ومضامينه الإنسانية المشرفة والمشرقة، وضوابطه الشرعية، والجهادُ القتالي في القلب منه.

ومنها: أن هناك تخويفًا للأمة من الجهاد: مضمونا وممارسة، ووضع كل من يتحدث عنه على قوائم الإرهاب، وهذا يحتاج إلى ردة فعل من الأمة المسلمة بعلمائها ودعاتها؛ لإقامة الميزان، وحفظا لفريضة من أشرف الفرائض، بل هي ذروة سنام الإسلام كما صح في السنة، وما تركها قوم إلا ذلوا.

ومنها: أن هناك محاولاتٍ دائبةً من الغرب من خلال مراكزه البحثية الاستشرافية لإحلال مفاهيم ومضامين أخرى للإسلام محل الإسلام الحقيقي، يريدون دعم تيار الدعاة الجدد الذي أسقطته الثورات العربية، ويريدون دعم التيار الصوفي الدخيل على التصوف الحقيقي، والذي يريد إسلاما مستسلما، وجهادا مستأنسا، وسلاما بلا عزة، وحياة بلا شرف، وخضوعًا بلا مقاومة.. وهذا كله يحتاج مقاومة من علماء الأمة الربانيين ودعاتها الصادقين المخلصين، بالإلحاح على استحضار الجهاد الحقيقي، وبيان معالم العقيدة ومعاقد الشريعة وحقائق الحضارة ومقاصد الدين: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). [سورة الروم: 30].

ومنها: أن الأمة العربية والإسلامية تمر بظروف مفصلية، ومرحلة تاريخية، لا تمر بها كثيرا في تاريخها .. مرحلة التحول من الاستبداد إلى الحرية، ومن الظلمات إلى العدالة، ومن الامتهان إلى الكرامة، ومن العشوائية إلى المنهجية، ومن الفردية إلى المؤسسية، ومن الذاتية إلى الموضوعية، ومن حكم الفرد إلى حكم الأمة، وباختصار شديد من الجاهلية – بصورة من صورها أو صور كثيرة – إلى الإسلام .. وفي هذه الظروف تحتاج الأمة إلى ثقافة الجهاد: جهاد المستعمر الذي احتل أرضنا وانتهك عرضنا ودنس مقدساتنا، وقتل أطفالنا وشيوخنا، وجهاد الحكام المستبدين والطغاة الظالمين الذين قتلوا شعوبهم، وسفكوا دماءهم وهجَّروا شرفاءهم في الداخل والخارج؛ من أجل الحفاظ على كراسيهم، والبقاء على عروشهم؛ لتنفيذ ما يُطلب إليهم من أسيادهم الذين يأمرونهم فيطيعون، ويطلبون إليهم فيستجيبون، قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].

ومنها: أن المؤمن الحق والعالم الحق يرى بلحاظ الرأي ويقين القلب وحقيقة الإيمان ومقتضى السنن.. يدَ الله تعالى من وراء ستار، وهي تحرك هذا العالم، وتُغير المنطقة كلها إلى المعركة المصيرية للأمة ضد الصهيوأمريكية العالمية التي تعمل عملها وتفعل فعلها من أجل وقف الزحف الإسلامي الذي يدهمهم ويجبههم في الشرق والغرب، ومن أجل الإبقاء على طفلتهم المدللة (إسرائيل)، رغم أن مراكزهم البحثية اليوم تتحدث عما بعد زوال إسرائيل.. فالواجب على الأمة اليوم عموما، وعلمائها ودعاتها على وجه الخصوص، أن يحيوا فريضة الجهاد، ببيان حقيقتها، وإبراز مضامينها، ورفع شرفها، وذكر ضوابطها وشروطها، وكيفية ممارستها وتنزيلها على واقع معقد متشابك.

الأسباب كثيرة والدواعي متنوعة لنشر ثقافة الجهاد، ونحن عندنا -بحمد الله- من الأدبيات فيه ما نفخر به على الغرب، ونتيه به على العالمين، وليس عندنا ما نستحيي منه أو نتوارى عنه أو نخفيه على الناس، كما الحال عند غيرنا.

إن إشاعة مصطلح الجهاد ومفهومه، ونشر مضامينه وإبراز حقائقه، والقيام بمقتضاه، ليعد من أعظم مقاصد الإسلام، وأهم مقاصد هذه المرحلة، ويكون ذلك بنشر مضامينه الشرعية الشاملة، مثل: الجهاد المالي، والجهاد الإعلامي، والجهاد بالكلمة: المقال والفتوى والمرئيات، وجهاد علماء السوء، وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، وجهاد النفس أيضا بما تمر به من مشاعر سلبية؛ فضلا عن الجهاد القتالي في مكانه وبضوابطه الشرعية، وغير ذلك من ألوان الجهاد التي تستغرق نشاط الأمة كلها بجميع طبقاتها وفئاتها وهيئاتها المختلفة؛ تحقيقا لمطلب الشرع في التعلق بمصطلحاته، ولنصرة إخواننا الشاملة، ونصرة قضايا الأمة العادلة؛ فنحن أمة الجهاد، وأمة الشرف والرجولة والمضاء والنجدة والندى، وأمة الشهادة على العالمين: [وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ].

د. وصفي أبو زيد
أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *