د. وصفي أبو زيد يكتب: 20 عاما على وفاة شيخنا الجليل د. محمد بلتاجي
في 26 أبريل 2004م دفن علم كثير، ووارى الثرى جثمانا طالما كان مهيبا، يخشاه طلبة العلم، ويهابون دخول قسم الشريعة الإسلامية مهابة له وخوفا منه.
إنه أستاذنا الجليل وشيخنا العظيم د. محمد بلتاجي حسن، العالم الفقيه، والأصولي الراسخ، وصاحب التصانيف الوافية المتقنة المحكمة.
لقد تتلمذنا له أربع سنوات في كلية دار العلوم من جامعة القاهرة، والسنة الرابعة هي السنة التمهيدية للماجستير؛ حيث درَّسَنا فيها مادتين، فكان الطلاب يقولون: «من سينجح في مادة سيرسب في الأخرى»!
توفي شيخنا 26 أبريل 2004م، ودفن يوم 27 في مثل هذا اليوم قبل عشرين عاما، عليه الرحمة والرضوان.
وكنت سابقا قد سجلت عنه مقطع فيديو على هذا الرابط:
كما كتبت عنه مقالا في العام الذي توفي فيه، أعيد نشره هنا، وفاء له، واستمطارا للرحمات والمغفرة على قبره، رحمه الله تعالى، وتقبل منه ما قدم، وفسح له في جنات النعيم، وجعل العوض في طلابه وإخوانه.
محمد بلتاجي حسن … حصن الشريعة الذي فقدناه
شهد يوم الاثنين 7 من ربيع الأول 1425هـ الموافق 26/4/2004م وفاة أحد علمائنا الكبار، الذين يثلم في الإسلام بغيابهم ثلمة لا تُسد حتى يقوم غيرهم، واليوم تمر علينا الذكرى العاشرة لوفاته رحمه الله ورضي عنه.
وموت العلماء -كما جاء عن السلف- مصيبة، ومؤذن بخراب الدنيا؛ إذ إن أعظم ما تصاب به الأمة أن تفقد علماءها وقادة الرأي فيها، ولا خير في أمة لا توقر كبيرها، ولا تعطي لعالمها حقه، ولا تعرف لأهل الفضل فضلهم وذكرهم وقدرهم.
وقد روى الإمام البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). صحيح البخاري: كتاب العلم. باب: كيف يقبض العلم.
إنه أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي حسن، العالم الكبير، والفقيه الجليل، والأصولي الراسخ، الذي لبي نداء ربه بعد معاناة مع المرض، ودُفن بمدافن عائلته في محافظة كفر الشيخ بعد صلاة عصر اليوم نفسه، عن عمر يناهز خمسة وستين عامًا، آثر خلالها أن يظل بعيدًا عن الأضواء والإذاعات والتلفازات والفضائيات رغم أنها كانت تلهث وراءه، وكما عاش في صمت مات أيضًا في صمت دون أن يشعر به أحد، وهكذا يموت عندنا العلماء، رحمه الله رحمة واسعة.
محطات في رحلة حافلة:
*ولد الدكتور محمد بلتاجي في عام 1938م، في بيت علم وشرف، فأبوه هو الشيخ بلتاجي حسن أحد العلماء المعروفين، وتربي في محافظة كفر الشيخ شمال دلتا النيل بمصر، وكان مقامه بمدينة طنطا في محافظة الغربية.
*تعلم في الأزهر الشريف، وتخرج في كلية دار العلوم عام 1962م، وكان الثالث علي دفعته..
*حصل على الماجستير بتقدير ممتاز عن موضوع: «منهج عمر بن الخطاب في التشريع» عام 1966م.
* ثم حصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولي عن موضوع: «مناهج التشريع في القرن الثاني الهجري» عام 1969م.
*رُقي إلي أستاذ مساعد، ثم أستاذ عام 1980م.
*شغل منصب «عميد» لكلية دار العلوم بالقاهرة لمدة عشر سنوات، منذ 1986م – 1996م..
*عمل رئيسًا لقسم الشريعة بالكلية منذ عام 1995م حتى وفاته..
*عُين رئيسًا لمركز الدراسات الإسلامية بكلية دار العلوم 2002م.
*عضو لجنة ترقية الأساتذة..
*أشرف علي أكثر من 200 رسالة علمية، وناقش مثلها..
*عضو مجمع البحوث الإسلامية..
*اختير عام 2003م عضوا بمجمع الخالدين «اللغة العربية» بالقاهرة.
أستاذنا د. محمد بلتاجي حسن الفقيه الأصولي المتمكن .. ذكريات وانطباعات (youtube.com)
جدير بالذكر أنه -رحمه الله تعالي- تربي وتعلم على أساطين العلم والفقه والأصول في عصره؛ حيث تتلمذ على عالم عصره الشيخ محمد أبي زهرة، والفقيه الشيخ علي حسب الله، والعالم الجليل الشيخ علي الخفيف، والأستاذ الدكتور عبد العظيم معاني، والأستاذ الدكتور مصطفي زيد، الذي أشرف عليه في الماجستير والدكتوراه، والداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي، وغيرهم.
د. بلتاجي المعلم والإنسان:
لقد درسني الدكتور محمد بلتاجي -رحمه الله- أربع سنوات، الفرقة الثانية والثالثة والرابعة في كلية دار العلوم بالقاهرة، بالإضافة إلى مادتين في السنة التمهيدية للماجستير؛ حيث أفدت منه إفاداتٍ علميةً كبيرة، وحببني في العلم الشرعي وحببه إلي، وكان يتبع معنا أسلوبا علميا من شأنه أن ينشئ باحثا حرا مستقلا.
ومن معالم هذا الأسلوب أنه طلب إلينا في السنة التمهيدية أن نتناول كتابين له تناولا نقديا، وقال: «ليس شرطا أن تكون في علم من تنقد أو أكبر منه علما وسنا، فليس في العلم كبير، لكن المهم أن يكون نقدنا بناء ومؤدبا يتبع الحق بدليله، مركِّزًا على الفكرة وبعيدا عن الشخص».
وكان يلقي علينا المحاضرة من محاضرات الأصول عن الإجماع أو القياس أو الاجتهاد وغيرها، ثم يأمرنا أن نتتبع ما قاله العلماء في هذه القضايا، ويقول: «أنتم مطالبون بكل ما قيل فيها منذ كتب الشافعي رسالته إلى أن كتب عبد الوهاب خلاف علم أصول الفقه».
فكانت طريقته ـرغم صعوبتها عليناـ تدفعنا إلى المكتبات والبحث والتعرف على الكتب الأصيلة ومناهج العلماء فيها بما يبني فينا ملكة البحث وسبل الوصول للمعلومة.
لقد آتاه الله تعالى بسطة في العلم والجسم، وكانت بسمته فيها قدر كبير من البراءة، كما كان المزاح محببا إليه، فلا يكاد يلتقي بزملائه أو أبنائه وطالباته إلا ويمازحهم بما ورث من آداب اللغة شعرا ونثرا، وما عايش من تجارب ومواقف وخبرات عديدة ومتنوعة.
كما كان مهابًا لا يجرؤ أحد على مبادأته بالمزاح، أو الحديث معه إلا على استحياء، فكأنما الشاعر عناه بقوله:
يُغْضِي حياءً ويُغْضَى من مهابته فمـا يُكَلَّم إلا حين يبتسم
بكفِّه خَيْزُرانٌ ريحهـا عبق من كفِّ أروعَ في عرنينه شمم
مشتقةٌ من رسول الله نبعتُه طابت مغارسُه والخيم والشيم
من مؤلفاته:
يعتبر الدكتور محمد بلتاجي من المقلين في التأليف؛ حيث لم يترك لنا كثيرًا من المؤلفات غير أن ما خطه بيمينه أغنى المكتبة الفقهية والأصولية، ولم يكن أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي في كتبه نسخة مكررة من غيره، بل كانت له شخصيته وأسلوبه المتميز في تناول القضايا الفقهية وفق خطة عقلية محكمة، ومن أهم ما تركه لنا ما يلي:
منهج عمر بن الخطاب في التشريع.. مناهج التشريع في القرن الثاني الهجري.. أحكام الأسرة دراسة مقارنة..
الملكية الفردية، وهو حائز على جائزة الدولة..
الميراث والوصية.
بحوث في التفسير والأصول والتشريع.
دراسات في الأحوال الشخصية.
بحوث في القرآن والوحي..
التشريعات المالية في فقه عمر بن الخطاب..
مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة..
الجنايات وعقوبتها في الإسلام وحقوق الإنسان..
بالإضافة إلى بعض الأبحاث المحكمة، وهذا كله يحتاج إلى دراسة علمية في ماجستير أو دكتوراه.
من ميزاته في التناول العلمي:
تميز ما تركه فقيدنا الكبير بالأصالة العلمية والدقة البحثية، والعبارة المحكمة، والدقة البالغة، والإحصاء والإحاطة فيما يتناوله، كما تميز بالجمع بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر.
ومن ميزات كتاباته:
الموضوعيةُ والمنهجية المتقنة التي كانت تؤصل للموضوع من كل جوانبه تأصيلا يرفع عنه اللبس ويزيل عنه الشبهات ويكشف عنه اللثام، ثم يورد أقوال الخصم ويجيب عنها بما لا يُبقي لما يَرِدُ على الرأي أيَّ بقية في نفس القارئ من حرج أو عقله من شبهة؛ فيخرج القارئ وهو سليم الصدر مقتنع العقل مطمئن النفس بما قرأ من تأصيل، وما رأى من توضيح لما يمكن أن يرد على الفكرة.
ومن المعلوم أن العلماء من حيث الكتابة والخطابة ثلاثة أنواع: نوع تقرأ له أفضل مما تسمع، ونوع تسمع له أفضل مما تقرأ، ونوع ثالث جمع الله له الاثنين وآتاه الحسنيين، متمكن في البحث والكتابة ومتمكن في الكلام والخطابة، وقد كان أستاذنا من النوع الأول، الذي تقرأ له أفضل مما تسمع.
ومما تميزت به كتاباته وضوح الاهتمام فيها باللغة العربية واستعمالاتها لا سيما في عملية الاجتهاد التنزيلي، باعتبار العلم باللغة من شروط الاجتهاد الأصيل، وبحكم حبه للغة العربية واطلاعه على آدابها شعرا ونثرا، حتى إنه كان يعقب على كبار اللغويين والبلاغين من أمثال الزمخشري.
كما أن حرصه على مراعاة مقاصد الشريعة وتحقيق مصالح الناس بما لا يتنافى مع الأصول والمبادئ والكليات ـ كان واضحا لا سيما في النوازل والمسائل المستحدثة.
من مواقفه التاريخية:
كانت للدكتور بلتاجي مواقف تذكر له فتشكر، وتنسب له فلا تنكر، تدل على شجاعته وقوته في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم؛ حيث كان إنسانا حرا لا يملي عليه أحدٌ ما لا يرضى، ولا يُكرهه أحدٌ على اتخاذ قرارات فيها ظلم لأحد، أو محاباة للبعض، أو رضوخا لجهات أخرى، يشهد له بذلك الأساتذة الذين عاصروا فترة عمادته للكلية أو رئاسته لقسم الشريعة بها، كما يشهد له الطلاب بذلك سواء بسواء.
ومن مواقفه موقفه من «قضية الربا» التي أثارها شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، وقد رد عليه الدكتور بلتاجي وقت أن كان الشيخ طنطاوي مفتيًا، وكان مما قال: «إننا مهما تأملنا آيات القرآن الكريم الواردة في الربا، وما يتصل بها من أحاديث السنة، وأسباب النزول فلن نجد فيها ما يشير من قرب أو بعد إلى ما قام في أذهانهم من أن الله حرم ربا الجاهلية لمحض ما كان يتضمنه من استغلال الفقير وظلمه.
وقد يري العقل البشري أن هذا كان من جملة الحكم التي روعيت في التحريم، ولكن لا يستطيع أحد الجزم بأن مناط علة التحريم في منع استغلال حاجة الفقير وظلمه. ومن يراجع كتب التفسير سيجد أن الظلم الوارد في الآيات إنما هو مطلق الزيادة علي الحق بصرف النظر عن حال الدائن والمدين، ورغبة كل منهما ومصلحته في الصفقة الربوية».
ومن هذه المواقف موقفه من قانون الأحوال الشخصية الذي تكلم فيه مفتي مصر الأسبق الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، فرد عليه د. بلتاجي وقدم دراسة كاملة بعنوان: «دراسات في الأحوال الشخصية».
ومن مواقفه الشهيرة موقفه من قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد، حيث قدم تقريراً عن الأعمال التي قدمها دكتور نصر ليحصل بها على الترقية الجامعية، رافضاً كل ما كتبه أبو زيد، وبين أن كلامه احتوى على مغالطات، وجهل فاضح وكفر واضح، وتجاوزات تخرجه من الملة.
ومن مواقفه أيضًا موقفه من العمليات الاستشهادية في فلسطين، حيث كان يري أن هذه العمليات من أرقي أنواع الشهادة في سبيل الله، وأنها جندي من جنود الله سبحانه، وأنها هي التي أفقدت الصهاينة وأعوانهم الأمن والسلام، وقذفت في قلوبهم الرعب والفزع، وأحدثت توازن الرعب الذي نسمع عنه كثيرًا ونقرأ عنه أكثر، ولا تمت بصلة إلي الانتحار أو الإلقاء بالأيدي إلي التهلكة.
من آرائه واهتماماته:
كانت للدكتور محمد بلتاجي آراء واهتمامات ونصائح منها ما كان شخصيًا، ومنها ما كان عامًا.
فمن آرائه الشخصية:
أنه لم يكن يرغب في الإعلام والظهور على الشاشات، ووجهة نظره أن الإعلام يمارس على صاحبه نوعًا من الضغوط والتعجل، وهذا ليس في صالح الفقيه لا سيما في القضايا المستجدة والخطيرة، بالإضافة إلى سير الإعلام في جهة مرسومة خطواتها مدروسة مضامينها، فكان يفضل العيش في صمت حتى لا يقع فريسة لأحد أو يتكلم بما لا يقتنع به، وحتى يبحث القضايا بهدوء، وتأخذ معه وقتها الكافي ليصل فيها إلى رأي مقرر.
ومن اهتماماته العامة -رحمه الله-
مشكلات الأسرة المسلمة وما يتعلق بها، وهو ما ورثه عن عمله في المحاكم الشرعية الخاصة بالأسرة قاضيًا ورئيسًا، فكان يري أنه لا يمكن للمجتمع أن يسير نحو التقدم إلا بحل جميع المشكلات التي من شأنها أن تعوق هذه المسيرة، وعلى رأسها المشكلات المتعلقة بالأسرة باعتبارها إحدى لبنات المجتمع. وكان الدكتور بلتاجي يحذر من الزواج العرفي، ويعتبره “محرمًا شرعا”؛ لأنه لا يحقق مقاصد الشريعة من الزواج وإن تم بورقة وشاهد، بل كان يعتبره نوعًا من الزنا المقنع ولا يسميه زواجا أصلا، وكثيرا ما استُضيف في لقاءات وندوات عن هذا الموضوع.
ومن اهتماماته أيضًا مجال المرأة والقضايا المثارة حولها،
ألف في ذلك كتابًا كاملاً: «مكانة المرأة» تناول فيه أهم هذه القضايا المتعلقة بها، مثل: حكم توليها المناصب العامة، ولباسها، وعملها، وصوتها، ودخولها المجالس النيابية، وحكم توليها القضاء، وحكم توليها الولاية العظمي، وغير ذلك.
كان الدكتور بلتاجي -رحمه الله- يتميز بنوع من الشدة والجدية مع طلابه بما قد يحسبه البعض تعسفًا أو ظلما أو غير ذلك غير أنه كان يريد أن يخرّج طلابًا نابهين، ويشكل عقولاً أصولية فقهية، تخدم الأمة وتقدم لها علماء، وقد تخرج عليه عشرات بل مئات الطلاب في مصر والعالم العربي والإسلامي.
وأختتم هذا المقال بكلمة قالها عنه أستاذنا العلامة الطاهر أحمد مكي، رحمه الله تعالى، أستاذ الأدب بكلية دار العلوم بالقاهرة في كلمته الترحيبية به في مجمع الخالدين بالقاهرة، قال: “وإلى جانب ما يتميز به عالمنا الجليل في سبر أغوار المشكلات الدينية. في سهولة ويسر، نأى بجانبه عن كل ما يشوب كرامة العالم، وأحاط نفسه بسور عمال من الكبرياء الحقة، يحول بينه وبين الزلفي والملق، أو العمل لغير وجه الله، مراقبة شديدة لضميره وواجبه، عف عن المادة في مختلف مظانها، فما طلبها ولا تكالب عليها، وسبلها معروفة ميسرة لمن يلتمس مطالب الدنيا الفانية، ولم يقبل ولا لحظة واحدة أن يكون من فقهاء السلطة والشرطة، وتكالب عليها كثيرون ليصبحوا وزراء ولو لشهور!”.
أدعو طلاب الدراسات العليا أن يقدموا فيه رسائل ماجستير ودكتوراه، وأدعو كلية دار العلوم، وقسم الشريعة الإسلامية فيها أن يقيم عملا علميا حوله .. جزاه الله عن العلم وطلابه خير ما يجزي به العلماء العاملين، والدعاة الصادقين الربانيين، وأخلفنا فيه خيرًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.