د. وليد عبد الحي يكتب: إسرائيل الدولة التائهة
تترك متابعة الدراسات والتصريحات والمناقشات الاعلامية الإسرائيلية انطباعين هما المرونة في تقبل طرح كل الافكار المتباينة والاستماع لها من جانب هيئات صنع القرار من ناحية وارباك هذا الصانع للقرار بين تناقضات الأفكار والحلول المتباينة من ناحية ثانية، ونظرا لتعقيدات هذه الموضوعات سأقدم سلسلة من الافكار التي يتناقش فيها الاسرائيليون لتأكيد أن إسرائيل دولة «دخلت مرحلة التيه السياسي» بعد التيه الجغرافي الأول زمن الفراعنة، مع ملاحظة أن الحيز الجغرافي للتيه الأول والتيه الثاني هو ذاته تقريبا.
أولا: أهداف الحرب على غزة:
أجزم أن أكثر من 80% من الخبراء الذين أتابع دراساتهم غربا وشرقا يقولون إن هدفيّ الحرب التي يشنها نيتنياهو ينفي أحدهما الآخر، فالقضاء على حماس سيؤدي الى مقتل أغلب الأسرى الإسرائيليين أو النسبة العظمى منهم، ومن هنا فإن أحد الأهداف يحمل بذور فناء الهدف الثاني، ولعل دلالات دقة هذه المعضلة أن اغلب حالات محاولات الانقاذ انتهت الى مقتل الرهائن الذين جرت محاولات انقاذهم.
معضلة الرهائن هي المؤشر الأول على التيه وصعوبة ايجاد حل وسط بين الهدف الأول (القضاء على حماس) والهدف الثاني (انقاذ الرهائن)، فالهدفان لا يجتمعان.
ثانيا: تقدر الدراسات المختلفة ان انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة (الآن او لاحقا) سيفتح المجال أمام عودة المقاومة للقطاع، فإذا انسحب الآن أو في فترة قريبة، فإن كل المؤشرات تكشف أن المقاومة ما تزال بقدر من العافية التي تؤهلها لإعادة تنظيم نفسها وتنظيم مجتمع القطاع ككل، أما إذا بقيت إسرائيل في القطاع لفترة طويلة، فإن المخاطر من ذلك متعددة ومنها:
أ- احتمال تصاعد الصراع لمستواه الاقليمي رغم أنه الآن في مرحلة «شبه إقليمي»، فمحور المقاومة يمتد من لبنان إلى اليمن والعراق وغزة، ومن المؤكد ان نيتنياهو لم يخطر في ذهنه أان اليمن والعراق سيكونان طرفين رئيسيين في المعركة، وتوهم أن حزب الله سيبقى في نطاق التهديد المعتاد عربيا أو سيشارك بعمليات رمزية، وفشل في كل تكهناته.
ب- إن استمرار الجيش الإسرائيلي في غزة سيترتب عليه أعباء اقتصادية وسياسية وعسكرية، ويكفي أن نشير إلى أان إسرائيل تحملت خسائر اقتصادية تصل حتى الآن إلى حوالي 60 مليار دولار، ناهيك عن النمو الاقتصادي الذي تراجع من +19.4 % مع بداية 2022 إلى سالب 19.4% مع مطلع 2024، وتراجعت الصادرات بنسبة 18.2% والواردات بنسبة 42%،وزادت نفقات الحكومة بسبب المجهود الحربي بمعدل 88.1% بينما تراجع تدفق الاستثمار بنسبة 67%، فإذا أضفنا لذلك ان قرابة 200 الف مهجر من المستوطنات تتحمل الدولة اعاشتهم، وأن هناك 300 ألف من موظفي القطاعين العام والخاص تم الحاقهم بالقطاعات العسكرية على حساب قطاع التشغيل.. وكلما طال أمد الحرب كلما تعمقت الأزمة، ويكفي أن نشير أن قطاع التكنولوجيا الذي تتباهي به إسرائيل فقد حتى الآن قرابة 60% من الجذب الاستثماري فيه.
ج- أن استمرار الحرب بشكلها الدموي الحالي، سيزيد من العزلة السياسية لإسرائيل، فصورة إسرائيل ترسمها الآن المظاهرات في كل دول العالم وفي الجامعات تحديدا، والوقوف الإسرائيلي أمام المحاكم الدولية، وتزايد قطع العلاقات الدبلوماسية أو سحب السفراء والتصويت المتزايد لصالح الاعتراف بفلسطين..
د- أن استمرار الصراع يزيد التشقق الداخلي في المجتمع الإسرائيلي (بين الحريديم والعلمانيين، وبين العسكريين، وبين السياسيين، وبين العسكريين والسياسيين) ناهيك عن تنامي عدم الاستقرار في إسرائيل وفي الضفة الغربية، ويكفي ان نشير إلى أن معدل عدم الاستقرار في إسرائيل تزايد بنسبة تصل الى 160% وهو ما يجعلها تحتل المرتبة 171 بين 193 دولة، وهي في نفس مرتبة موزمبيق.
هـ- انحدار لغة الحوار بين القادة السياسيين والعسكريين بشكل لم تألفه ادبيات الحوار السياسي الإسرائيلي، ويكفي مراجعة أوصاف يهودا أولمرت او إيهود باراك لنيتنياهو أو أوصاف مدير مكتب نيتنياهو لوزير دفاعه أو أوصاف بن غافير لبني غانتس.. الخ، مما يشير لتوتر غير مألوف بين عناصر النخبة الحاكمة.
ذلك يعني أن إسرائيل تائهة بين القدرة على تحمل أعباء استمرار القتال وبين الخروج من الحرب بكل ما يعنيه ذلك من إحباط مجتمعي إسرائيلي وتعزيز مكانة المقاومة واهتزاز صورة الجيش الإسرائيلي…الخ من تداعيات قد يكون لها آثار استراتيجية بعيدة المدى.
ثالثا: سلطة بدلا من المقاومة:
بعد أن روجت إسرائيل لمد سلطة التنسيق الأمني إلى غزة وفشلت، حاولت اختراع سلطة قبلية عشائرية في غزة وهو ما لم يرَ النور، وتحاول البحث عن بديل للمقاومة يحظى عربيا ودوليا وفلسطينيا بالقبول، لكن الأمر يشير إلى عدم القدرة على التوافق على طبيعة هذه السلطة، فإجراء انتخابات سيعيد المقاومة للسلطة بإجماع كل الخبراء واستطلاعات الرأي العام الفلسطيني، ومحاولات زرع الفتنة -على يد خلايا حراس أوسلو- لم تفض إلا لاعتقالهم من قبل المقاومة، وهو ما يعني تيها آخر لإسرائيل، فهي عاجزة عن ايجاد بديل للمقاومة، وعاجزة عن اجتثاث المقاومة.
رابعا: الحل الاستراتيجي:
أزعم وبقدر كبير من الثقة بأن المشكلة الأكبر لإسرائيل هي أنها ليس لديها حل للموضوع الفلسطيني، فالتهجير فشل فشلا ذريعا، وحل الدولة الواحدة يعني ان الأغلبية في برلمان الدولة الواحدة سيكون للفلسطينيين بحكم العدد السكاني وبحكم نسبة الزيادة السكانية، وحل النموذج الجنوب أفريقي زمن التمييز العنصري سيعني استمرار موجات عدم الاستقرار بل وتزايده، وحل الدولتين يقاومه كل اليمين الإسرائيلي المستولي على السلطة، وهو ما يعني أن إسرائيل تائهة بين مشكلتها الديموغرافية وبين عدم وجود حل لهذه المشكلة.. وهي قلقة للغاية من تزايد التأييد الدولي لحل الدولتين، فإن قبلته فقد ينفجر اضطراب واسع بين وحدات المجتمع الإسرائيلي، وأن لم تقبله واجهت بيئة دولية ضاغطة.
ماذا يعني ذلك:
يبدو أن نيتنياهو أخذ قراره بأن يضحي بالرهائن أو معظمهم ويستمر في المعركة لأن ذلك هو أهون الشرور من وجهة نظره، لكنه يخشى -ومعه الأمريكيون- من أن تتسع المواجهة ويضطرب الوضع الإقليمي إلى حد يصبح معه الوصول لصورة واضحة للمستقبل أمر شبه مستحيل..
ويستمر التيه من جديد..
ربما.