مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: الاتجاهات المستقبلية لحرب غزة

منذ نشوب المواجهة الفلسطينية الاسرائيلية في 7 اكتوبر 2023 الى اللحظة الحالية، تبلورت ثلاثة احتمالات مركزية لمسار الاحداث في غزة، وتباينت فرص كل احتمال بين لحظة وأخرى، إذ يبدو احد الاحتمالات قريب التحقق، ثم ينقلب الى عكس ذلك، واحيانا يبدو الاحتمال الضعيف في مسار تتزايد فرص تحققه، وهكذا تبقى هذه الاحتمالات الثلاثة كعقارب الساعة تلتقي وتتفارق مع كل ثانية أو دقيقة،

وهذه الاحتمالات الثلاثة هي:

1- الاحتمال الأول: الاتفاق على وقف إطلاق النار:

ورأينا محاولات ذلك في أروقة الأمم المتحدة (مجلس الأمن والجمعية العامة) بل وفي إشارات من خلاصات المحاكم الدولية، ناهيك عن اتفاقات بين طرفي النزاع خلال تبادل مراحل تبادل الأسرى، ولكن ذلك كله ينكفئ الى النقيض وتشتعل الحرب مجددا.

2- الاحتمال الثاني: التصعيد:

بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، ظهرت أولى ملامح التصعيد واتساع رقعة المواجهة بدخول حزب الله في 9 أكتوبر إلى المعركة بقصف صاروخي على أهداف إسرائيلية، مما خلق انطباعا بأن مسار الاتساع  والتصعيد قد بدأ، ومع توجه حاملة الطائرات الأمريكية ايزنهاور في 16 أكتوبر إلى المنطقة تزايدت هواجس التصعيد، وازدادت حمى توقعات اتساع المواجهة إقليميا مع إعلان  قوات الحشد الشعبي العراقية أنها هاجمت ميناء أم الرشراش (إيلات) في فلسطين المحتلة، واكتملت حلقة التصعيد الإقليمية مع الإعلان عن سيطرة أنصار الله في اليمن في 19 نوفمبر على أول سفينة يهاجمونها في إطار مساندتهم لغزة، ثم توالت عملياتهم تباعا.. وتغذى مسار التصعيد بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل يوم 13 أبريل 2024 ردًا على الهجوم الإسرائيلي على السفارة الإيرانية في دمشق قبل ذلك بفترة قصيرة.. وأعيد شحن التوقعات بتصاعد المواجهة بعد إعلان إسرائيل تنفيذ الهجوم على رفح في قطاع غزة في 6 مايو 2024 رغم التحذيرات الأمريكية والدولية من مخاطر ذلك.. رغم كل ما سبق، استقر الوضع على نفس الايقاع بمواجهات محلية بين أطراف محور المقاومة وبين إسرائيل، دون الوصول للمواجهة الإقليمية التي تفترض أن إيران ستكون مركزها.

ويميل أغلب الباحثين إلى أن استراتيجية إسرائيل (وهو ما يتوافق عليه نيتنياهو وبني غانتس وايزنكوت وغيرهم من القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية) هي الضغط نحو تصعيد يجر الولايات المتحدة إلى أرض المعركة، ثم يتم حينها ترك مهمة تدمير إيران على عاتق الولايات المتحدة كما جرى مع العراق، فإذا وقع ذلك، يكون العمود الفقري لمحور المقاومة قد انكسر، وهو ما يعفي إسرائيل من كل المعاناة مع هذا المحور، ويبدو أن الولايات المتحدة ليست في رفاه يغويها بالدخول في هذا الاتجاه حتى الآن ، لأن لديها مهام دولية أخرى لا تقل تعقيدا في أوكرانيا وفي تايوان وفي الزحف الروسي لجوار مواقعها الاستراتيجية في الهادئ والجوار القريب في امريكا اللاتينية، ناهيك عن الانتخابات الرئاسية القريبة.

3- الاحتمال الثالث: استمرار الوضع القائم حاليا،

أي أن يبقى الوضع بدون وقف إطلاق نار دائم ولجم التصعيد إقليميا واستمرار القتال في قطاع غزة واستمرار الحديث عن جهود الوساطة، ويبدو أن هذا هو المسار الذي يفضله نيتنياهو،

على أمل أن يوصله ذلك لأهدافه التالية:

أ‌- نزع سلاح المقاومة وبالتالي التخلص من عبء المواجهات معها منذ 2005، ومن الواضح أن الولايات المتحدة لا تمانع في ذلك بل وتقدم كل ما يساهم في تحقيقه، رغم كل ما يروجه افراد عصابة الأربعة الأمريكية من نزعة سلمية انسانية.

ب‌- فصل حدود غزة عن مصر من خلال إيجاد منطقة عازلة داخل القطاع تفصل القطاع عن محور فيلادلفيا (صلاح الدين) المصري على طول 14 كيلومتر وبالتالي لا يكون هناك اتصال جغرافي بين فلسطين ومصر، وهو ما يجعل من الموضوع الفلسطيني موضوعا غير ذي بال لدى القيادة المصرية على غرار التفكير المصري تجاه الحروب المشتعلة حول مصر في السودان أو ليبيا أو البحر الأحمر..

ج- إدارة مدنية جديدة وتغيير النظام التعليمي في قطاع غزة، وستكون هذه الإدارة المدنية أقرب إلى نظام الحكم الذاتي المقيد.

د- عدم الاعتراف بدولة فلسطينية، ومواصلة الاستيطان والتفكير في أدوات تفريغ سكاني من الفلسطينيين لاحقا وبشكل تدريجي.

المستقبل:

يتحكم في الاحتمالات الثلاثة السابقة مجموعة من العوامل:

أولا: قدرة المقاومة على الاستمرار في المواجهة بخاصة تحت ضغط الآلة العسكرية الإسرائيلية من ناحية، وضغوط الحياة المعيشية وتصاعد الخسائر بين المدنيين وتآكل البنية التحتية من ناحية أخرى، ناهيك عن ضغوط الوسطاء العرب (قطر ومصر) للوصول الى تسوية تُبقي الرضا الأمريكي عنهما قائما، ذلك يعني أن الوضع للشهرين أو الثلاثة القادمة سيكون بالنسبة للمقاومة حرجا للغاية.

ثانيا: من شروط توقف القتال- من منظور إسرائيلي- أن يتم الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين (بالحرب أو التفاوض)، لكن الإعلان عن مصرعهم جميعا وتسليم جثثهم ضمن صفقة معينة (مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين) تشكل احتمالا لا يجوز استبعاده بخاصة إذا شعرت المقاومة أن هذا هو خيارها الأخير والمُلِحْ.

ثالثا: نعتقد أن الاختبار الحقيقي لموضوع احتمالات التصعيد الإقليمي سيكون في اللحظة التي تلوح فيها بوادر نصر إسرائيلي، فقد قال نصر الله في خطاب متلفز مع بدايات المواجهة بأن المحور «لن يسمح بهزيمة المقاومة»، فإذا مال المحور نحو «استراتيجية إدارة النصر الإسرائيلي» وليس مواجهته فإن الجيش الإسرائيلي سيستقر في غزة لفترة لا اظن انها ستقل عن عشر سنوات (فقد بقي في جنوب لبنان 15 سنة).

رابعا: إذا أدى التفاوض بين المقاومة وبين إسرائيل إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين فان الضغوط الداخلية على نيتنياهو ستتقلص، لكن مبررات استمراره في العملية العسكرية ستكون اقل اقناعا للمجتمع الدولي إلا للولايات المتحدة التي ستستمر في الادعاء بحرصها على المدنيين كستار يعفيها من التداعيات الأخلاقية للعنف الإسرائيلي.

خامسا: تنتظر دول التطبيع العربي هزيمة المقاومة لتندفع نحو مزيد من تحويل الصراع العربي الصهيوني من سمته الصفرية إلى سمته غير الصفرية، وستعمل الولايات المتحدة وأوروبا على تعزيز هذا التوجه، لكن خيار حل الدولتين سيعرف تزايدا في الدعوة له، وهو ما لا يريده اليمين الإسرائيلي بشكل أكثر وضوحا من التيارات الأخرى.

سادسا: أن المشكلة الرئيسية في تقديري هي في أن إسرائيل لا تملك حلا للمشكلة الديموغرافية فيها، لكن انتصار إسرائيل -إذا حدث- سيعطي إسرائيل آليات جديدة للتفريغ التدريجي عبر دول عربية أو غربية للسكان الفلسطينيين بخاصة مع استمرار الاستيطان والاستيلاء على الأراضي وإحلال عمالة أجنبية محل العمالة الفلسطينية، والتضييق على الاقتصاد الفلسطيني إلى حد الخنق.

سابعًا: إذا صمدت المقاومة بقواها الذاتية أو بمساندة المحور لها خلال الشهور من 3- 6 شهور قادمة، فإن احتمالات التصدع والتناحر الداخلي -إلى حد العنف- في إسرائيل ستزداد بخاصة مع تنامي اليمين الديني في المجتمع الإسرائيلي، وسيزداد الضغط الدولي على إسرائيل، وستذوي آمال المطبعين القدامى والمتلهفين على التطبيع بواقع يتناسب مع طموحاتهم، وسيكون الاستعداد لمواجهات قادمة جديدة هو الأرجح.

وقد تكون احتمالات استرخاء النزاع السوري التركي كما توحي بعض التصريحات والنشاطات السياسية مؤخرا بين وفود من البلدين، عاملا مساعدا في تحرير سوريا من اعباء مشاكلها مع تركيا بخاصة على الحدود بين البلدين، وهو ما يجعل المساهمة السورية في محور المقاومة أكبر.

 كما أن ضغوط المجتمع الدولي وتزايد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، واستمرار المحاكم الدولية في متابعة جهودها ضد اسرائيل بخاصة مع تزايد الدول المنضمة لجنوب افريقيا في رفع هذه الدعاوى، تشكل عوامل مساعدة في هذا الاتجاه، ناهيك عن أن «نسبة» من اليمين السياسي المتزايد دوره في الدول الغربية له موقفه السلبي من إسرائيل تحديدا، يساهم هو الآخر في تعزيز الموقف الفلسطيني.

أما متغير البجعة السوداء، فهو أمر يحتاج لمناقشة منفصلة بخاصة إذا كان حدوثه في مصر أو إسرائيل او السعودية، فهي دول لها تأثيرها على الاحتمالات الثلاثة دون نفي وزن بقية الدول إذا ما حطت البجعة السوداء في ديارها.

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى