مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: الحوار السقراطي وتعقيدات الحياة السياسية

تشير مقارنة عابرة بين «أغلب» المناظرات الفكرية السياسية العربية من ناحية و«أغلب» تلك السائدة في المجتمعات الغربية وغيرها وفي الكيان الصهيوني، من ناحية ثانية، إلى تخفي ثقافة «النقائض الشعرية» التي سادت في تراثنا بين جرير والفرزدق ومن شاكلهما في المناظرات السياسية العربية، بينما تستشعر في الغالب الأعم أنفاس سقراط في الحالة الثانية، ففي «النقائض» تكون العناية منصبة على تمويه الواقع بجماليات الصورة الشعرية بما تنطوي عليه من سخرية أو مبالغة مفرطة، بينما تكون الثانية مشغولة بهدم البناء المنطقي الذي بنيت عليه حجة الطرف الآخر، فالأولى تعطيك شعورا بنشوة «العادة السرية» حيث التلذذ بالخيال والعالم الموهوم، بينما الثانية تقض مضجعك العقلي وتبقيك في قلق مثمر يغذيك بمطاردة أسئلته لك بطريقة الحوار السقراطي المعهودة، في الحالة الأولى سينفعل الجمهور ويصفقون لجماليات العالم الوهمي الذي رُسم للتو في مخيلة المتلقين، بينما الثاني يقود لمزيد من الحفر في جسد الظاهرة موضوع المناقشة.

ويبدو لي أن التعقيد الهائل والإيقاع المتسارع في الحياة المعاصرة نتيجة فيضان بنيات المجتمعات على بعضها البعض والمنحنى السوقي للتكنولوجيا ومناهج البحث العلمي، جعل قدرة باحث واحد على جلاء كنه ظاهرة واحدة أمرا متعذرا، لذا تجد أن أغلب الدراسات المعاصرة تميل تدريجيا لفرق البحث على حساب المؤلف الواحد، لأن المهمة أصبحت أكثر عسرا، فلا بد من أكثر من سقراط واحد.

وتبدو هذه المسألة في الجانب السياسي بخاصة في تعقيدات الحياة الدولية واضحة تماما، فعند إطلاعي على سبيل المثال على برنامج التحديثات الأربعة التي شرعت فيها الصين بعد عامين من موت ماوتسي تونغ، وجدت نفسي احمل مجلدا يضم أربعة آلاف ومائة وواحد وعشرين صفحة؟ وعند متابعة الملف صفحة صفحة، كنت اشعر بأنفاس كونفوشيوس وسقراط وهما يتهامسان، تجد في ثنايا الحوار بين صفحات الدراسة: هل النظرية الماركسية صحيحة؟ هل يمكن تعديلها؟ هل الرأسمالية صحيحة؟ لماذا استمرت؟ هل يمكن تطعيم الماركسية ببعض مقولات الرأسمالية؟ هل تفيدنا المدرسة الفرويدية في تفسير شيء ما؟ أيهما أهم أن نبدأ بالاصلاح السياسي أم الإصلاح الاقتصادي أم بهما معا؟…الخ من الأسئلة التي ينطوي بعضها على تحد لأساسيات الفكر الماوي خاصة والماركسي عامة.

وفي مناقشات الاتحاد الأوروبي- على سبيل المثال خلال الأزمة اليونانية الخاصة بالديون-، ورغم أن المتناقشين ينتمون للغات وقوميات مختلفة (فرنسي وألماني واسباني وايطالي…الخ) ومذاهب دينية مختلفة (بروتستنتي وكاثوليكي وأرثوذكسي) ومستويات اقتصادية متباينة (يصل الفارق لعشرة أضعاف بين لوكسمبورغ وهنغاريا).. إلا أن القدرة على الوصول للحل أمر لا يحتاج لدليل..

إن فكرة المعادل الأخلاقي للصراع التي أبدعها «وليم جيمس» و«نورمان آنجيل»، تعني أن لا تتخلى عن مصالحك، ولا عن رأيك، وان التناقض أمر بديهي بل هو أمر تطوري، ولكن المعضلة هي هل هناك طريقة أخرى غير الصراع (بيننا) لحل المشكلة؟ وقد كشف مشروع الاتحاد الأوروبي عن نتائج ليست هي المثلى ولكنها بالتأكيد أقل عبئا من الصراع الذي جربه الأوروبيون بينهم لفترة تزيد على عشرين قرنا.. لقد أوصلهم الحوار السقراطي للمعادل الأخلاقي للصراع فيما بينهم(أؤكد فيما بينهم).. حتى الآن على الأقل.

ليس عيبا أن نختلف، وأن تتباين وجهات النظر، بل من الأجدى أن تتعدد وجهات النظر، ولكن من الأجدى أن تقدم لي معلومة واحدة من أن تملأ خيالي بسخريات وشتائم وهجاء وثأر معنوي واتهامات بالخيانة، فلا تدع تصفيق الجمهور يدغدغ نشوة الإبهار، بل دع العقل البارد يجذر الوعي بالظواهر.

كثيرا ما أحاول التخلص من غواية النقائض، لكن الحنين يجرني أحيانا لجرير والفرزدق.. ربما.

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights