د. وليد عبد الحي يكتب: الخطاب السياسي الإسرائيلي في حرب غزة
لعل صلتي بالأدبيات السياسية الاسرائيلية تؤهلني لعقد المقارنة بين الخطاب السياسي الإسرائيلي الحالي والخاص بالحرب في غزة والضفة الغربية وبين الخطاب الإسرائيلي في الحروب العربية الإسرائيلية السابقة، وأكاد أجزم أن الخطاب السياسي الإسرائيلي الحالي يختلف بنسبة كبيرة عن مضامين ودلالات مفردات الخطاب والسياق (context) الذي ترد فيه هذه الجوانب، ويكفي التأمل في المظاهر التالية:
1- التوتر العالي في مفردات وسياقات الخطاب الإسرائيلي: لا يحتاج المراقب لفطنة غير عادية لملاحظة عدم اتزان الكثير من التصريحات الإسرائيلية، ويكفي التأمل في الأمثلة التالية من الجمل التي وردت على لسان وزراء إسرائيليين:
أ- يجب مسح غزة بقنبلة نووية
ب- عناصر حماس والفلسطينيين «وحوش بشرية»
ج- يجب سجن عناصر الارهاب في «أنفاق»
د- هؤلاء هم نسخة من داعش
هـ- كيف تقاتلون من أجل السنوار
و- تبادل الاتهامات بين المسؤولين الإسرائيليين الحاليين وبينهم وبين القدامى (أولمرت، باراك، هنغبي.. الخ)
ز- غوتيرش شخص «غير أخلاقي» وعار على الأمم المتحدة أن يقودها شخص مثله.
إن هذه المفردات أو النصوص لا تدل إلا على غلبة اللاوعي على الوعي، وزلات اللسان كما قال فرويد ليست إلا تعبير عن مكبوت كامن، بل إن بعض هذه المفردات أو التصريحات قادت لمشاجرات علنية وأدت لتوقيف وزراء عن أداء مهامهم لفترة.
ومن الواضح أن كل هذه التصريحات تخفي قدرا من التباس ذهني نتج عن ثقة مفرطة في النفس من ناحية وعدم قدرة على تكرار تحقيق انتصار سريع وغير ملتبس كما كان الحال في السابق حتى في حرب اكتوبر 1973 من ناحية ثانية، فطبقا لعلم النفس فان الناجح دائما يكتئب إذا وقع في فشل، ونيتنياهو يعد ضمن القلة من رؤساء الوزراء الإسرائيليين الذين حكموا لفترات طويلة، فهو يقف إلى جانب بن غوريون في طول مدة الحكم (حوالي 16 سنة)، لكن نيتنياهو يعيش منذ فترة في سلسلة أزمات مترابطة، فهو متهم بالفساد وتم استدعاؤه للتحقيق ولا زال الأمر عالقا، ثم واجه شارعا يعارضه بقوه ضد تعديلاته القضائية، ثم تم اتهامه بإخفاء وثائق ذات صلة بتقصيره وحكومته في توقع عملية طوفان الأقصى،
ثم تُطل التباينات في مواقف أعضاء حكومته من هنا أو هناك، ناهيك عن حجم الخسائر البشرية والاقتصادية والنفسية من استمرار المعركة، بل والنهش المتواصل من أنصار الله اليمنيين وحزب الله، إلى جانب العجز عن التهجير وتزايد الاضطراب في الضفة الغربية، وتهديدات أهالي الرهائن لدى المقاومة بل وشتمه على شاشات التلفزيون، ثم الضغوط الناتجة عن اتساع دائرة النقد للسياسات الإسرائيلية من دول أوروبية وأفريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية، بل إن بعض الدول التي كانت تساند إسرائيل صوتت ضدها أو استدعت سفراءها من إسرائيل، كما أن بعضها قدم مساعدات إنسانية لغزة، وهو ما يتضح في التصويت في الأمم المتحدة، فمشروع وقف إطلاق النار في البداية أيده في مجلس الأمن خمس دول (16 أكتوبر) والمشروع الثاني (18 اكتوبر) أيده 12، والثالث (8 ديسمبر ) أيده 13، أما في الجمعية العامة فقرار وقف إطلاق النار (26 اكتوبر) أيده في البداية 121 (وليس 120 كما هو متداول) والقرار الثاني (12 ديسمبر) أيدته 153 دولة، أي أن التأييد لوقف إطلاق النار يتزايد دوليا وهو ما دفع بايدن للشعور بالحرج الدبلوماسي والعزلة فقام ينتقد نيتنياهو وحكومته.
إن تواتر الأزمات على نيتنياهو في ظل نرجسيته الحادة (يمكن العودة لدراستي عن شخصية نيتنياهو في موقع مركز الزيتونة) جعله مضطربا لأن عليه أن يوفق بين «ثقته العالية في ذاته» وبين «النقد الشعبي والرسمي الإسرائيلي المتصاعد ضده» و«النقد الدولي» له وكان آخره نقد بايدن.
2- التضارب في الخسائر البشرية في الجانب الإسرائيلي: أن المقارنة بين ما يعلنه الجيش (وهو غير متسق بين الحين والآخر) وبين ما تسربه وسائل الاعلام وبين ما تنشره تقارير المستشفيات وبين ما يقوله قادة عسكريين متقاعدين أو سابقين وبين ما يجري تداوله في مواقع وسائل التواصل الاجتماعي بخاصة منها حسابات شخصيات مرموقة في المجتمع الإسرائيلي…الخ فيها أرقام متضاربة مما يعزز صورة الارتباك والقلق لدى صانع القرار.
لقد خلقت هذه التباينات إرباكا وشعورا بقدر من الفوضى وخلقت قلقا متزايدا لدى الجمهور الإسرائيلي بشكل بدأ ينعكس على ردات فعل مسئولين إسرائيليين بتصريحات غير منضبطة، ومن يتتبع المقالات في صحيفة هارتس ويديعوت احرنوت وبعض المواقع الإسرائيلية باللغة الإنجليزية يجد ذلك واضحا.
3- للمرة الأولى تقوم إسرائيل بنشر أفلام فيها تقليد واضح للأفلام الوثائقية التي تبثها المقاومة، فعادة إسرائيل تبث أفلام عن تحركات القوات أو عن صور معتقلين أو أسري، لكن ليس في تقاليد الإعلام الحربي الإسرائيلي نشر أفلام كالتي بدأت تظهر في الايام الاخيرة والتي لم تكن موفقة في ايصال الرسالة المقصودة، وقد قمت بترجمة على غوغل لتعليق لاحد اليهود بالعبرية على الفيلم الاسرائيلي حيث يقول التعليق” أن تقلدوا هوليود وتفشلوا أمر يمكن فهمه، لكن أن تقلدوا حماس وتفشلوا فهذا امر سخيف”.
وهذا يعني أن أفلام المقاومة عن عملياتها بدأت تجد صدى ومتابعة من الجمهور الإسرائيلي، وبدأت تترك آثارا نفسية على المتلقي الإسرائيلي، وهو امر بدأ يرفع من وتيرة التوتر لدى صانع القرار، فراح يفرغ مكبوتاته دون انضباط.
4- لغة الجسد: في تقرير لأحد خبراء علم النفس يشير من متابعته للغة الجسد لنيتنياهو إلى ما يلي:
أ- تشير لغة جسد نتنياهو إلى أنه يقرأ من نص أمامه لكنه غير ظاهر للمتفرج، حيث تتوافق حركات جسده مع الكلمات التي يتحدث بها، مما يدل على افتقاره إلى العفوية والتلقائية والتخوف من “زلات اللسان” التي تكشف الواقع الحقيقي.
ب- التناقض بين حجم ما يقوله نيتنياهو عن مخاطر الطائرات بدون طيار أو الصواريخ التي تطلق على إسرائيل وبين نسبة ما يقوله الناطق العسكري عن نجاح القبة الحديدية في الاعتراض يعزز الشواش الذهني للمتلقي الإسرائيلي فتزداد عدم الثقة في نيتنياهو.
ج- لغة جسد نتنياهو تفتقر إلى القوة الحازمة ولا تتناسب مع حدة كلماته، مما يثير تساؤلات حول نواياه الحقيقية
د- ينظر نيتنياهو بين الحين والآخر خلال الخطاب الى أسفل مما يشير الى الاستعداد «لمداراة ضغوط اللاوعي عليه».
لماذا كل هذا؟ لا نتعجل الإجابة، فهذا مظهر واحد من معركة واسعة سياسيا وعسكريا واجتماعيا وإعلاميا واقتصاديا، فالحكم على بعد واحد لا يفي بمتطلبات اصدار الحكم، لكن معرفته ضرورية.