د. وليد عبد الحي يكتب: الرهان العربي الرسمي الخائب
لماذا تنحاز الولايات المتحدة لإسرائيل؟ سؤال قد يبدو ساذجا لدى البعض، وقد يبدو واضحا في اسبابه لدى البعض الآخر، لكني أود التوقف عند «الذرائعية العربية” لتفسير ذلك، وسنناقشها حجة بحجة:
1- الزعم بأن اللوبي اليهودي (المكون من شرائح يهودية ومن الصهيونيين المسيحيين) يتحكم في القرار الأمريكي من خلال المال والإعلام والأصوات الانتخابية.. الخ. وهنا لا بد من التوقف عند هذه النقطة، فهي حجة صحيحة في معطياتها، ويكفي الاطلاع على الكتاب المشهور (John Mearsheimer, Stephen Walt – The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy. London الصادر عام 2006) ، لمعرفة وزن اللوبي اليهودي في القرار الأمريكي، ولكن لماذا يتحكم اللوبي اليهودي في توجهات القرار بقدر غير هين؟
دعوني أبدأ بمثال تبسيطي: لو كنت تاجرا وتتعامل مع شركتين متنافستين، ثم وجدت أن مديري الشركتين يقول لك كل منهما عليك أن تختار: إما التعامل معنا أو مع الشركة المنافسة لنا، هنا ستجد نفسك مضطرا لحساب عقلاني يقوم على أساس أي الشركتين أكثر فائدة وتختارها، ولكن ما هو أفضل وضع لك؟ هو أن تبقى على علاقة مع الطرفين لأن هذا هو الأفضل لك، والبديل الأقل جدوى هو أن تختار إحدى الشركتين على أساس حجم المنفعة لكنك ستخسر منافعك من الأخرى.
التطبيق على العلاقة العربية مع أمريكيا:
لنفترض- دعوني افترض- ان العرب قالوا لأمريكا عليك أن تختاري إما مصالحك معنا أو مصالحك مع إسرائيل، هنا سينحاز العقل البراغماتي الأمريكي للمصلحة الأكبر والتي هي مع العرب بحكم الموقع الاستراتيجي والنفط والودائع المالية ومشتريات السلاح والتجارة وانتشار اللغة الإنجليزية والاستثمارات والتوظيف للصراع مع القوى المعادية لأمريكيا بفتح القواعد والدعم الإعلامي…الخ.. ناهيك ان العديد من الكتاب الأمريكيين المرموقين يرون أن إسرائيل تحولت إلى عبء.
لكن الولايات المتحدة في الوضع الحالي تجد أن مصالحها مع العرب مضمونة تماما ومصالحها مع اسرائيل مضمونة تماما، فلماذا تضحي بأحدهما، انها وبعقلانية لا تضحي باي منهما إلا إذا وُضعت أمام الاختيار بينهما، وهو ما لم تفعله الدول العربية، وبالتالي لا داعي للتستر بقوة اللوبي اليهودي لتبرير الموقف الأمريكي، فأنتم لم تضعوا الولايات المتحدة في موقف الاختيار، فلماذا تغير أمريكا سياستها وهي تجني مصالحها منكم ومن إسرائيل معا؟
ودعوني أقدم مثالا واضحا على ذلك لفهم العقل الأمريكي: فمع اقتراب نهاية حرب فيتنام، كانت الولايات المتحدة في وضع سيء جدا في فيتنام، ويروي كيسنجر أن ماوتسي تونغ قال له بوضوح: نحن على استعداد للتخلي عن دعم فيتنام مقابل ان تطردوا تايوان من الامم المتحدة (وكانت تايوان حينها عضوا دائما في مجلس الأمن ولها حق الفيتو وتعتبر هي الممثل الشرعي للصين الكبرى)، وتطور الأمر لاحقا باتجاه موضوع صين واحدة، وهنا اجرى كيسنجر حساباته فوجد ان الخلاص من الورطة في فيتنام (وعوامل اخرى لا مجال للإسهاب فيها) تستحق التضحية بتايوان، رغم ان تايوان كان لها لوبي مؤثر للغاية (أبرز شخصياته: Marvin Liebman وWalter Judd، الى جانب أغنى رجل في العالم في تلك الفترة وهو الصيني التايواني ( Soong Tse Vung،) ناهيك عن أن للوبي التايواني علاقاته المالية مع أكثر من 80% من رجال الكونجرس من خلال هيئات مسجلة في الولايات المتحدة استنادا إلى قانون تسجيل الوكلاء الاجانب Foreign Agents Registration Act) ).
ماذا يعني ذلك؟ أن الولايات المتحدة تتأثر باللوبي، ولكن إذا كانت «المصلحة الاستراتيجية الامريكية العليا» تتضارب مع مصلحة جهة أخرى فان اللوبي يتوارى تأثيره، وسأعطي بعض الامثلة الواقعية من التاريخ العربي المعاصر:
أ- كتاب رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحق شامير (Summing Up) الصادر عام 1994 الذي يروي فيه كيف امره بوش بعدم الرد على صواريخ صدام حسين التي ضربت تل ابيب قبيل حرب الخليج، ويشير شامير (من صفحة 217 -226) انه كان مع خيار الرد الفوري على الصواريخ، ولكنه اضطر للانصياع، لان المصلحة الامريكية تقتضي ذلك، وهي المرة الاولى التي تتعرض فيها اسرائيل للضرب ولا ترد.. ومن يقرأ الصفحات التسع الخاصة بهذا الموقف يشعر بالمرارة التي احسها شامير لكنه لم يتمكن من التمرد.
ب- الوضع الذي واجهه بن غوريون عام 1956 مع ايزنهاور، وقد تضمنت رسالة ايزنهاور الى بن غوريون النص الحرفي التالي (الرجاء التنبه للصيغة القاسية) يقول ايزنهاور:
«لقد استرعى انتباهي التصريحات المنسوبة لحكومتكم والتي تفيد بأن إسرائيل لا تنوي الانسحاب من الأراضي المصرية، بناء على طلب الأمم المتحدة. ويجب أن أقول بصراحة، إن الولايات المتحدة تنظر إلى هذه التقارير، إذا كانت صحيحة، بقلق عميق، وإن أي قرار من هذا القبيل تتخذه حكومة إسرائيل من شأنه أن يقوض بشكل خطير الجهود العاجلة التي تبذلها الأمم المتحدة لاستعادة السلام في الشرق الأوسط، ولا يمكن إلا أن يؤدي إلى إدانة إسرائيل باعتبارها منتهكة لمبادئ وتوجيهات الأمم المتحدة.»
ولم يجد بن غوريون مخرجا الا الانصياع الفوري مباشرة ونفذ الانسحاب صاغرا.
ج- في صفقة الاواكس المشهورة للسعودية عام 1981، بذل اللوبي اليهودي كل جهد لمنع بيعها للسعودية (وكانت حجة اللوبي اليهودي ان اي تغيير في النظام السعودي سيجعل هذه الطائرات بيد النظام الجديد كما حصل مع الاسلحة التي تم بيعها لشاه إيران وانتهت بيد الخوميني)، ولكن ريغان تجاوز كل تأثير اللوبي وعقد الصفقة لأنه رأى فيها مصلحة امريكية تفوق الاعتراضات الاسرائيلية.
السؤال الاستراتيجي بعد ذلك هو «هل وضع العرب الولايات المتحدة أمام الاختيار إما مصالحكم مع إسرائيل أو مصالحكم معنا»؟ الجواب الواضح هو لا… لذلك لا تتستروا باللوبي لتدعموا ذرائعيتكم، افعلوا ما فعله ماوتسي تونغ…فلماذا تغير الولايات المتحدة سياستها طالما مصالحها العربية والإسرائيلية مصونة مع الجانبين؟ لن تغيرها، وهو سلوك أمريكي عقلاني.
إن منطق تاريخ العلاقات الدولية يشير إلى أن الدولة الأكبر (سياسيا واقتصاديا وعسكريا وعلميا وسكانيا وجغرافيا) هي التي تسير الدولة الأصغر وليس العكس، لذا من غير المجدي ستر عورات السياسة الأمريكية باللوبي اليهودي، لأن اللوبي اليهودي حاضر في القرار الأمريكي لأنكم غائبون.
أما الرهان العربي الدائم على «الرئيس الجديد» عند كل انتخابات رئاسية أمريكية، فيكفي ان اشير إلى أنه منذ عام 1948 وحتى حرب غزة الحالية، وقعت 18 حربا بين العرب وإسرائيل، منها 10 حروب في زمن الديمقراطيين و8 حروب في زمن الجمهوريين، وهو ما يعني ان ابليس والشيطان كينونة واحدة، فسواء عاد بايدن لكرسي السلطة في نوفمبر القادم -وهو الارجح طبقا لنموذج ليكتمان- أو فاز ترامب، فالنتيجة في جوهرها واحدة.
2- لدي سؤال لمروجي نظرية اللوبي اليهودي: لماذا لا تشكلوا لوبي عربي بحكم عدد العرب والمسلمين الكبير ممن يحملون جنسية امريكية، ولكم مليارات الدولارات في استثمارات في قطاع واسع من المشروعات الامريكية، فالعرب هم المشتري الاول للسلاح الأمريكي، فهل حاولتم استغلال علاقاتكم مع شركات الانتاج العسكري أو ما سماه رايت ميلز «المجمع العسكري الصناعي» للتأثير عليه؟ وهناك الآن مجموعات مدنية من النخب الامريكية التي يطلق عليها الحركات التقدمية تؤجج العداء ضد اللوبي اليهودي، فهل حاولتم التواصل معهم؟ هل درستم كيفية توظيف أو استثمار التحول الراهن في الرأي العام الأمريكي الشاب (من 18-30) والأقل تأييدا لإسرائيل؟
3- من الضروري إدراك أن اللوبي اليهودي ليس كل من يعمل فيه يهوديا، وليس كل متعاطف أمريكي مع إسرائيل هو جزء من اللوبي اليهودي أيضا، فاليهود يمثلون 2.3% من سكان أمريكيا، ولكنهم مرتكزون في عشر ولايات لها في الكلية الانتخابية 244 صوت، مما يجعل وزنها كبيرا للتأثير، لأن المطلوب لانتخاب الرئيس 270 صوتا، لكن اليهود يوظفون عناصر قوتهم لصالح مصالحهم ومنها إسرائيل، فيعملوا على تكييف القرار الأمريكي يما يخدمهم.
الخلاصة:
1- اللوبي اليهودي قوة مؤثرة لأن العرب استسلموا لذلك ولم يضعوا الولايات المتحدة امام الاختيار بين مصالحها عندهم ومصالحها عند اسرائيل، فحجم التجارة الامريكية الاسرائيلية تساوي 23.8% (عام 2022) من حجم التجارة الامريكية العربية، وحجم الاستثمارات المباشرة بين أمريكا والعرب 163 مليار مقابل 52 مليار لإسرائيل، ولو حسبنا مشتريات السلاح الأمريكي سنجد أنه خلال الفترة بين 2019 لنهاية 2023 اشترى العرب 34.4% من مبيعات السلاح الأمريكي مقابل 3.6% اشترتها إسرائيل.
إذن العرب قوة غبية «لديها أدوات التأثير لكنها لا تستعملها»، فالعلاقات الدولية كالطبيعة لا تحب الفراغ، فحيث تغيبون يحضر اللوبي اليهودي.
2- الأدهى مما سبق هو ان ليس المصالح الأمريكية هي الأكبر فقط عند العرب، بل إن العدد الأكبر من المشكلات العربية هي نتيجة للسياسات الأمريكية، فالاضطرابات خلال العشرية السوداء من 2010 الى 2020، والتنمر الإسرائيلي على المنطقة، والصراع مع الحركات الدينية المتطرفة…الخ كلها من نتائج السياسة الأمريكية.. أي ان لأمريكا مصالح هائلة في منطقتنا ومع ذلك هي سبب مشاكلنا الاستراتيجية، فكيف تكون هي المشكلة وهي الحليف…هل هذا دليل وعي ام غباء؟
3- يكفي أن نعلم أن أكثر من 51% من مرات استخدام الولايات المتحدة للفيتو كان ضد الحقوق العربية (من 92 مرة استخدمت الفيتو لحماية إسرائيل 47 مرة)، ومع ذلك يتحدث بعض وزراء الخارجية العرب عن الصداقة الأمريكية العربية وعن الدور البناء لأمريكا في رعاية السلام والتطور في المنطقة.
إذن الامر ليس قوة اللوبي.. بل شيء آخر.. أتعرفون ما هو؟ نعم صحيح هو ما خطر ببالكم للتو.