لنتخيل السيناريو التالي:
التنظيم السياسي (س) تمكن من امتلاك أسلحة بيولوجية، أو جرثومية أو شعاعية أو نووية؟ وهدد هذا التنظيم دولة كبرى إذا لم تنفذ طلباته؟ هل هذا ممكن؟
ولكن ما الذي يمكن ان يوصلنا الى هذا السيناريو؟
1- مشاعية المعرفة العلمية: فالتطور المعرفي وتزايد الترابط بين الشبكات العلمية والقدرة على اختراق المنظومات العلمية بل الوصول الى ادق اسرارها يساعد في هذا الاتجاه، فالجامعات تدرس طلابها هذه الموضوعات وتختبرهم فيها.
2- انتشار السلاح النووي :بدأت الولايات المتحدة انتاج السلاح النووي خلال الحرب العالمية الثانية، وبعدها بدأ الانتشار بفضل انتقال العلماء وبفضل تنامي البحث العلمي ،فارتفع عدد النادي النووي من 1 الى 5 دول (فرنسا، أمريكا، روسيا، بريطانيا، الصين) ثم اصبح العدد 8 دول بانضمام الهند وباكستان وكوريا الشمالية، ثم اصبح من المسلم به ان إسرائيل دولة نووية، ثم هناك 6 دول توجد فيها قواعد عسكرية تتبع دولا او احلافا أخرى وتضم هذه القواعد أسلحة نووية، ثم هناك دول كانت فيها قواعد لأسلحة نووية (جنوب افريقيا وكازخستان وأوكرانيا).فإذا كان هناك 9 دول لديها سلاح نووي فهناك 8 دول لديها قدرات كافية لإنتاجه.
بالمقابل هناك 26 دولة لديها أسلحة كيماوية و20 دولة لديها أسلحة بيولوجية.
ويكفي ان نشير الى انه حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي كان هناك دولة واحدة فقط لديها قدرة على انتاج الطائرات المسيرة، لكنها الآن أصبحت مشاعا للإنتاج من قبل أي تنظيم، وهو ما يعني ان السر التكنولوجي لم يعد بدلالاته القديمة.
3- الانتقام الدولي: عندما تشعر احدى الدول ان دولة ما تضايقها بشكل استراتيجي، فقد تتيح لخصوم تلك الدولة الوصول لأسلحة الدمار الشامل (البيولوجي او الكيماوي او الاشعاعي او النووي)، ولدينا نموذج إسرائيل كحالة شاخصة على تأكيد ذلك، وعندما حاول الرئيس الأمريكي كينيدي ضبط الامر، كانت نهايته.
4- وجود علماء أسلحة دمار شامل لديهم الاستعداد الكامل للتعاون مع تنظيمات سواء تحت ضغط الغواية المالية أو الاندفاع الأيديولوجي أو الديني.. أو غير ذلك، ولعل تتبع نشاطات مجموعة العالم الباكستاني عبد القدير خان جديرة بالذكر هنا.
5- دلالات المنحنى السوقي (Logistic Curve)، فنقاط التحول الكبرى في التكنولوجيا تتناقص الى حدود العقدين تقريبا، وهو ما يعني ان القفزات التكنولوجية قد تفرز أسلحة أخطر مما هو قائم، وقد دل الاتجاه الأعظم للتكنولوجيا على ان التطور في هذا المجال تجاوز حتى الخيال العلمي، وهو ما يعني ان التقدم التقني قد يصبح اقل تكلفة وأيسر حصولا على مكوناته الأولية بل وأيسر انتاجه.
6- ان تفاقم الاستبداد والفقر والعنصرية.. الخ في المسرح الدولي سيعزز نزعة الخلاص بالقوة للمجتمعات المقهورة، ويعزز النزعة “الانتحارية” على قاعدة “عليّ وعلى اعدائي”.
7- دخول “السيبرانية” الى المجال العسكري دفاعا وهجوما، وأعتقد ان البعد السيبراني سيدفع العالم الى إعادة النظر في معنى أسلحة الدمار الشامل بخاصة من حيث قدرتها على تسهيل تشغيل الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية، مثل التلاعب بأنظمة التحكم وجمع البيانات (SCADA) والتسبب في تسرب عنصر كيميائي قاتل من منشأة لتصنيع المواد الكيميائية على غرار ما حدث في بوبال الهندية عام 1984.
ويتبين من التقارير الدولية أن الأسلحة السيبرانية لديها بالفعل القدرة على تمكين وقوع حوادث أسلحة كيميائية وبيولوجية وإشعاعية ونووية، بخاصة إذا كانت المنشآت المستهدفة أو مشغلوها يعتمدون على تكنولوجيا المعلومات، فمن الممكن استخدام الأسلحة السيبرانية للتلاعب بوظائفها أو تعطيلها بطرق قد تؤدي إلى إطلاق مواد ضارة من أسلحة الدمار الشامل، ويمكن للأسلحة السيبرانية أن تُمكّن من وقوع أحداث أيضًا من خلال التسبب في سوء فهم المشغلين للمواقف واتخاذهم إجراءات سلبية دون قصد.
8- ثمة من تتلبسه هواجس أخرى مثل إمكانية سيطرة جماعات على أسلحة دمار شامل في دول “فاشلة أو تتمزق جغرافيا”، ولو أخذنا مثالا على كوريا الشمالية، فهي دولة يمكن ان تحدث فيها اضطرابات، أو دولة كباكستان النووية، أو دول فيها مخزونات من الأسلحة البيولوجية او الكيماوية، بل حتى الاتحاد السوفييتي عند تفككه وقف على اعتاب مثل هذا الاحتمال.
يكفي التذكير بأنه في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات، نظمت جماعة أوم شينريكيو اليابانية برامج للأسلحة الكيميائية والبيولوجية، واستخدمت عوامل بيولوجية ولو انها فشلت، واستخدمت عوامل كيميائية مع بعض التأثير، وفي عامي 1994 و1995 بدأت جماعات الميليشيات في الولايات المتحدة في استكشاف العوامل البيولوجية في التسعينيات وقامت بعدة محاولات في هذا المجال، لكن فشلها لا يعني انتهاء المحاولات.
ولندلل على ان هاجس انتشار أسلحة الدمار الشامل ليس أمرا مبالغا فيه، ننقل حرفيا ما قاله الرئيس الروسي الحالي “بوتين ” عام 2012، حيث قال حرفيا:
“في المستقبل البعيد، سيتم تطوير أنظمة أسلحة قائمة على مبادئ جديدة (شعاعية، وجيوفيزيائية، وموجية، والجينية، وسيكوفيزيائية، وغيرها من التقنيات). كل هذا، بالإضافة إلى الأسلحة النووية، وهذا سيوفر أدوات جديدة كليًا لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية.
ستكون أنظمة الأسلحة عالية التقنية هذه مماثلة في فعاليتها للأسلحة النووية، لكنها ستكون أكثر “قبولًا” من حيث الأيديولوجية السياسية والعسكرية. وبهذا المعنى، سيلعب التوازن الاستراتيجي للقوى النووية دورًا متضائلًا تدريجيًا في ردع العدوان والفوضى”
فإذا اضفنا للمشهد السابق، ان عدد الحروب الداخلية (كمؤشر على الدول الفاشلة) يتزايد بشكل أكبر كثيرا من عدد الحروب “بين الدول”، فان ذلك يعزز هواجس الفوضى التي يتخوف بوتين منها، فإذا دعمنا ذلك بمؤشر آخر هو ان هناك 95 دولة حاليا تقع في دائرة المؤشر السلبي في مقياس الاستقرار السياسي، وان هناك 79 تنظيما مسلحا تصنفه الولايات المتحدة كمنظمات “إرهابية”، فان الهواجس الأمنية تزداد عمقا.
هل يمكن للرشد السياسي أن يمنع القيامة المحتملة؟ ان القدرة على التكيف مع التغير المتسارع في كل مناحي الحياة وبخاصة التكنولوجي يتراجع، ويبدو ان التزاحم بين قوى المجتمع الدولي ستتبلور على النحو التالي:
1- صراع بين نموذج العولمة وبين نموذج ويستفاليا القومي
2- الصراع بين الترابط العضوي (الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافي) وبين الترابط الآلي (الدين واللغة واللون..الخ)
3- الصراع على المراكز القطبية بين القوى القديمة والقوى الصاعدة
4- الصراع الجيواستراتيجي على القطبية الإقليمية.
5- الصراع بين الدولة وبين ما دون الدولة وما فوق الدولة.
إن العالم اعقد كثيرا مما يبدو للوهلة الأولى، لكن مناهج فهم هذا التعقيد لا تتطور في الدول النامية مقدار تطورها في الدول المتقدمة، وهو ما يجعل الحوار يدور في حلقة مفرغة..
ربما.