تتشكل بنية الصراع في الشرق الأوسط حاليا من كتلتين مركزيتين هما محور المقاومة ومركزه إيران، ومحور التطبيع ومركزه الولايات المتحدة، وعند رصد إنجازات كل من المحورين من منظور المراقب الموضوعي سنجد ما يلي:
أولا: محور التطبيع:
عند رصد التحولات التي أصابت المشهد الشرق اوسطي منذ 1979(المعاهدة المصرية الإسرائيلية) حتى فترة الأيام الأولى من طوفان الأقصى، فان تحولات عميقة وفي ميادين مختلفة قد اصابت الشرق الأوسط، ويتهم هذا المحور محور المقاومة بأنه مغامر، فما هو حصاد فترة التطبيع مع إسرائيل؟:
1- على الجبهة الفلسطينية:
أ- تعترف 65% تقريبا من الدول العربية اعترافا قانونيا (de jure) أو اعترافا واقعيا (de facto) بإسرائيل.
ب- ضم القدس الشرقية كاملة مع توسيعها وعدم احترام شروط الوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة وتحويلها إلى عاصمة لها بمساندة أمريكية ودون أي رد فعل غير لفظي من محور التطبيع، ففي فترة الحكم الأردني للضفة الغربية كانت مساحة القدس حوالي 6.4 كيلومتر مربع، أما الآن فان إسرائيل جعلت مساحتها تصل الى 70 كيلو متر مربع (أي استولت على حوالي 63.6 كيلومتر مربع من الضفة الغربية وضمتها لها)
ج- ارتفع عدد المستوطنات الى 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية.
د- بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية 726 ألف و427 مستوطنا (وهو ما يعادل عدد اليهود عند إنشاء إسرائيل 1948).
هـ- تقلصت المساحة التي يسيطر عليها الفلسطينيون في كل فلسطين إلى 14%.
و- أعلنت إسرائيل ضم هضبة الجولان (1200 كيلومتر مربع) وبنت فيها 35 مستوطنة يسكنها حوالي 30 ألف مستوطن.
ز- يقبع الآن في سجون إسرائيل 9 آلاف و840 سجينا فلسطينيا، اما عدد من تم سجنه في فترات ما بعد 1979 لفترات مختلفة فهو 892 ألف فلسطيني منهم 219 ماتوا في السجون.
ح- تراجع دخل الفرد الفلسطيني (قياسا لقوته الشرائية) 22% منذ بدء التطبيع، وارتفعت نسبة البطالة بمعدل 36%.
2- على الجبهة العربية:
أ- منذ 1979 وقعت مواجهات عسكرية في المنطقة العربية بين العرب انفسهم ومع ايران ومع إسرائيل وحروب بعض الأقليات ناهيك عن جحيم ما اطلق عليه الربيع العربي، وعند حساب الفترة من 1979 الى الآن (45 سنة) كان هناك صراعا عسكريا في 39 سنة منها، أي ان نسبة زمن العنف في فترة التطبيع هو حوالي 87% من كل الفترة.
ب- بلغ عدد القتلى في كل هذه الفترة (بعد التطبيع 1979) حوالي 6 ملايين قتيل اغلبهم في الحرب العراقية الإيرانية وفي ما اسموه الربيع العربي وفي الحرب السودانية المتواصلة، وهو ما يعني ان نسبة القتلى العرب في الصراع مع إسرائيل هو الأقل.
ج- من بين 352 مؤشرا فرعيا (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتكنولوجيا وعسكريا) تراجع 311 مؤشرا في العالم العربي، أي بنسبة 88.4%
د- رغم التعتيم الإعلامي العربي (الرسمي والشعبي على حد سواء ولو بنوايا مختلفة) فان اعلان وزارة الدفاع الامريكية عن نقل إسرائيل من منطقة عمليات القيادة الأوروبية الى منطقة عمليات القيادة المركزية في يناير 2021، شكل في تقديري( وقد نبهت الى ذلك في حينها وفي عدد المقالات) أحد اخطر مؤشرات الوضع القادم (حينها)، وقد أشار بيان النقل الى ان الخطوة هي ” لقيام حوار بين الجيشين الأمريكي والإسرائيلي حول مواجهة الشراكة الصينية الإيرانية”، ثم ورد في التقرير نصا كاشفا وهو «ان اتفاقيات ابراهام بين إسرائيل والدول العربية فرصة استراتيجية لتوحيد الشركاء الرئيسيين في مواجهة التهديدات المشتركة في الشرق الأوسط».. وهو ما يعني تحويل الخنادق المتواجهة بين العرب وإسرائيل الى الخنادق المشتركة بينهما، وهو ما بدأت تُطل مؤشراته في المرحلة الأخيرة. وان تأسيس وتطور القيادة المركزية الامريكية منذ 1983 الى الآن يشير الى انه من صلب الاستراتيجية الامريكية في المنطقة (2004 تم اعتبار سوريا ولبنان ضمن صلاحيات القيادة المركزية، وفي 2008 تم انشاء القيادة العسكرية الامريكية في افريقيا والتي تسمى افريكوم، وفي 2018 تم انشاء أندوباكوم (للمحيطين الهادئ والهندي)..وفي 2021 اكتملت بضم العرب وإسرائيل تحت فرع هذه القيادة، وهو استكمال للتحولات، لا سيما ان قائد هذه القيادة الذي ارسى استراتيجيتها هو الجنرال ماكنزي الذي تصفه الدراسات الإسرائيلية بأنه من اكثر الضباط الأمريكيين صلة بإسرائيل، ويكفي العودة لتقارير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى لاكتشاف عمق دلالات هذا التوجه.
3- المكانة الدولية:
أشرنا في مقالات سابقة الى ان العالم العربي يحتل المرتبة الأخيرة بين الأقاليم الستة الكبرى في العالم في كل من: الديمقراطية، الاستقرار السياسي، الفساد، الانفاق على البحث العلمي، ولكنه يحتل المرتبة الأولى في نسبة الانفاق على الدفاع من اجمالي الناتج المحلي.
هذا هو حصاد دعاة العقلانية والابراهيمية والاعتدال.
ثانيا: محور المقاومة:
لا يستطيع محور المقاومة ان يزهو بإنجازات يمكن الرهان عليها في المستقبل القريب والمتوسط، فهو حديث التشكل بالمعنى الميداني، ومركز ثقله ليس باليد العربية، ونسبة بنائه تحالفا دوليا متواضعة للغاية حتى الآن. ومع ان طوفان الأقصى -بكل آلامه- وضع إسرائيل في حال لم تعهدها من قبل، فقد أثر عليها سياسيا واقتصاديا وعسكريا محليا وإقليميا ودوليا، إلا ان المحور يتعرض لضغط هائل وتجري الآن محاولات لتفكيكه من خلال:
أ- الضغط العسكري الميداني على المحور من قبل أمريكيا وإسرائيل وإنجاز عمليات ذات مدلول رمزي معنوي أكثر منها تحولات استراتيجية.
ب- محاولة فك العلاقة بين محاور المقاومة وغزة، من خلال البحث عن اتفاقيات وقف إطلاق نار في كل جبهة بمعزل عن الأخرى، مع التركيز على لبنان حاليا.
ت- التعاون الاستخباري الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي التطبيعي ضد محور المقاومة، وبإمكانيات كبيرة.
ومع ان محور المقاومة يقاوم بطاقة مذهلة حتى للمراقبين الغربيين، فإن الامر مرهون في مستقبله على مركزه وهي إيران، وهو ما يستوجب عليها القيام بكل ما تستطيع لمنع تفكك محورها.
الخلاصة:
لا أرى إلا ان المنطقة مقبلة على جولات صراع أخرى، لأن إسرائيل تحديدا :
1- لا تمتلك حلا واضحا للموضوع الفلسطيني، فهي عاجزة عن فرض أي حل(كالتهجير)، وتتخوف من أي مقترحات تقدمها الأطراف الأخرى للحل(حل الدولتين او الدولة الواحدة او حتى الحكم الذاتي).
2- نظرا لان إسرائيل تعتبر البعد الأمني هو مركز استراتيجيتها، فإنها تنظر دائما بقلق كبير من أي تطور عربي، وهو ما يجعلها تتدخل في البنية العربية باستمرار، وهو ما سيضيف للمأزق بعدا آخر، ويساعد على تكرار المواجهة.
3- استنادا لمقولة ماركس بأن “التاريخ يتحرك من جانبه المتعفن” فان المنطقة العربية –كما اشرنا بالأرقام- بلغ فيها العفن أقصاه، وهو ما سيجعل تناقضاتها تتفجر من فترة لأخرى، ويكفي ان تنظروا للمشهد التالي( حالة عداء بين المغرب والجزائر، فوضى في ليبيا، حرب أهلية في السودان، خنق استراتيجي لمصر باضطراب اقليمها الجغرافي من الجهات الأربع ناهيك عن تخفيض مواردها المائية من اثيوبيا، حرب غربية مع اليمن، حرب في غزة ولبنان والعراق وسوريا وبمستويات مختلفة، 25 قاعدة عسكرية غربية، ناهيك عن قواعد روسية وفرنسية وصينية…الخ، وفوق كل ذلك الحروب مع إسرائيل.
اننا مقبلون على مرحلة قاسية وطويلة الأمد، قد تكون الاقسى منذ نصف قرن، وسيكون شعارها بين محور المقاومة ومحور التطبيع هو «من يصرخ أولا».. فهل يصرخ محور التطبيع؟ نعم إذا حافظ التاريخ على اتجاهه العام من الظاهرة الاستعمارية..
ربما سيحافظ.