بحوث ودراسات

د. وليد عبد الحي يكتب: تداعيات الاقتصاد السياسي لسياسات ترامب الجمركية

ينتمي دونالد ترامب الى منظور أيديولوجي محافظ هو ما يُطلق عليه “اليمين البديل او المحافظون القدامى (Palo conservative) والذي يجمع داخليا بين نزعة أبوية محافظة ونزعة وطنية قطرية تغلفها مسحة براغماتية برتوش مسيحية، ويتمركز جمهور هذا التيار في الحزب الجمهوري، أما في السياسة الخارجية فيركز على الحمائية (Protectionism) التجارية ومعارضة العولمة وضبط التدخل العسكري وجعل المصلحة القومية تعلو غيرها.

وشكلت خطته الاقتصادية القائمة على رفع النسب الجمركية على الواردات الامريكية المؤشر الأكثر دلالة على توجهاته، ولكن هذه الخطة لها تداعيات متنوعة نراها على النحو التالي:

اولا: التداعيات السياسية:

من البديهي ان التداخل بين الاقتصاد والسياسة مسلمة مستقرة في علم السياسة، فالتأثير المتبادل بينهما لا يستوجب الشرح فيه كثيرا،

ولعل اول تداعيات سياسات ترامب الجمركية هي إرباك الكثير من أدبيات العولمة بخاصة التي كانت تجعل من العولمة  والأمركة “صنوان”،

ففي الوقت الذي تشكل إجراءات ترامب الجمركية طعنة لحرية التجارة وتدفقها –وبالتالي لأحد اهم آليات العولمة- فان الرئيس الصيني (الاشتراكي) هو الآن وبتعبيره تحديدا من يقود سفينة العولمة والأكثر حرصا عليها،

وهو مشهد مربك للأيديولوجيا المدرسية لأنها لم تميز بين العولمة كصيرورة (Process ) وبين العولمة كوجهة (Destination).

ولعل ذلك يمثل أحد ابعاد التأثير السياسي الفكري لإجراءات ترامب.

اما الجانب الآخر في تداعياتها السياسية فهي تعبير عن الردة للمنظور الواقعي والويستفالي دون مراعاة المرحلة الانتقالية التي نعيشها الآن في النظام الدولي حيث التحول من المنظور الصفري (Zero-sum Game) الى المنظور غير الصفري (Non zero-sum Game)،

ولما كانت الردة قادمة من اهم قوى النظام الدولي فأنها تمثل محاولة من اتجاه فرعي (Sub-trend) لتغيير الاتجاه الأعظم (Mega-trend)، وهو ما يعني ان فاعليتها ستكون عابرة ومحدودة ليعود الاتجاه الأعظم ليجرها معه ثانية وخلال فترة أقصر مما يعتقد الكثيرون.

اما البعد الثالث في تداعيات سياسات الجمركة الترامبية سياسيا فهو الاحتقان في قنوات التفاعل التجاري بقدر قد يخلق توترات داخلية في وحدات النظام الدولي وتوترات بين الوحدات،

وهو ما قد يمتد للتحالفات العسكرية القائمة “كالناتو” لتصبح موضع نقاش حول بقائها او حدود وظيفتها او توزيع أعباء تشغيلها، ناهيك عن دفع المتضررين الى البحث في استراتيجيات المواجهة، بخاصة إذا ترتب على إجراءات الجمارك –وما يتعلق بها من إجراءات اقتصادية أخرى-  اضرار تدفع أعداء الامس ليكونوا حلفاء الغد والعكس صحيح،

ويتعزز هذا التوجه بجعل شبكات المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة الدولية والمنظمات المعنية بالبيئة وحقوق الانسان والهجرات بل والسلم العالمي في وضع يعرقل من توسيع دائرة عملها مما سيزيد الطين بلة، وهو ما يجعل سياسة ترامب –الدعوة لحروب اقل- لا تسير بخطى حثيثة كما يزعم.

وفي الوقت الذي ستكون الصين هي المتضرر الأكبر –بخاصة بعد جولات الرفع المتعاقبة 20%-ثم 50% –ثم104%- لأنها هي صاحبة الفائض الأكبر في تجارتها (992 مليار دولار) بالمقارنة مع الولايات المتحدة صاحبة العجز الأكبر (98.4 مليار دولار)، فان الروس الأقل تضررا من هذه السياسة الامريكية، لان روسيا لم تعد شريكا تجاريا مهما للولايات المتحدة لأنها بعد حرب أوكرانيا وسياسات الديمقراطيين في السنوات الأربع الماضية تراجع حجم تجارتها مع واشنطن من 36 مليار دولار عام 2021(بداية عهد بايدن) الى 3,5 مليار دولار عام 2024، فإذا علمنا ان 1.3 مليار منها هو للمخصبات والبلوتونيوم (اللذان يصعب على أمريكا تجنبهما في الزراعة والصناعة) فان إجراءات ترامب لن تكون ذات أثر على الاقتصاد الروسي، ورغم استقرار الروبل الى حد ما ، لكن الأثر على روسيا قد يكون من خلال تراجع أسعار البترول الذي يشكل احد صادرات روسيا الهامة، رغم انه ضرر غير مباشر بل يتم عبر تداعيات اقتصادية أخرى. ولعل هذا يتطابق في دلالاته مع حجم الضرر على الاقتصاد الإيراني، بل ربما يكون اقل من حجم الضرر الروسي على تواضعه.

ومعلوم في التاريخ الاقتصادي ان آليات التفاعل بين الدول في القطاع التجاري تتم عبر تفاوض بين طرفي العلاقة، لكن ترامب انتهج سياسة “الإملاء”، فهو يقرر دون تفاوض مسبق، وهو ما نظر له الأوروبيون واليابان والهند وآخرون على انه “رعونة” وخروج على قواعد القوانين الدولية التجارية، وهو ما يترك انطباعا سلبيا حول الدبلوماسية الامريكية.

خلاصة الراي في البعد السياسي ان جمارك ترامب زعزعت التحالفات التقليدية لكنها لم تهدمها حتى الآن، ولكنها قد تؤسس لتحولات معينة، لكن فترة أربع سنوات ليست كافية حتى مع تطبيقها لتحويل الاتجاه الفرعي لاتجاه أعظم.

ثانيا: الجانب الاقتصادي:

يكاد أن يُجمع الاقتصاديون على أن التجارة الحرة تزيد من مستوى الناتج الاقتصادي والدخل، بينما في المقابل، فان الحواجز التجارية تكبحهما، وبالعودة لحالات رفع الجمارك في مراحل تاريخية مختلفة يتبين أن هذه السياسة كانت تقود غالبا الى رفع الأسعار وتُقلل الكميات المتاحة من السلع والخدمات للشركات والمستهلكين، مما يؤدي إلى انخفاض الدخل وتراجع فرص العمل والناتج الاقتصادي.

ولفهم إجراءات ترامب وتداعياتها، دعونا نتوقف عند معالم هذه السياسة أولا:

تبدأ سياسة رفع الجمارك من 10% مع كل دولة، ولكن ترتفع هذه النسبة بموازاة حجم العجز التجاري بين تلك الدولة وبين الولايات المتحدة، وحيث ان العجز مع الصين هو الأعلى، فان ذلك يفسر الارتفاع الكبير في نسبة الجمارك الإضافية على الصين.

تتوقف الزيادة في الجمارك على الدولة الأجنبية بمجرد تحقق التوازن التجاري بين البلد وامريكا او في حالة تحقيق الميزان التجاري الأمريكي فائضا مع تلك الدولة.

نسبة رفع الجمارك مع أي دولة ترتبط بدرجة الاعتماد السياسي لتلك الدولة على الولايات المتحدة، او ما يسمى المسافة السياسية بين الطرفين، فالدولة المعتمدة سياسيا وامنيا على أمريكا سيكون هامش مساومتها متاح للتذبذب مثل إسرائيل او تايوان او بعض الدول العربية والآسيوية، بينما الأقل تبعية لواشنطن ستكون نسبة القسوة عليها اعلى، أي ان نسبة الجمارك ترتبط بالميزان التجاري من ناحية وبمدى التبعية للسياسة الامريكية مهما جرت محاولة التدثر بغطاء أخلاقي لتفسير ذلك.

ان تأثير سياسات ترامب الجمركية مرتبطة بحجم نصيب الولايات المتحدة في التجارة العالمية، فالولايات المتحدة تمثل 13% من حجم الواردات العالمية، ولا بد من معرفة ان 30 دولة في العالم تمثل   89.6% من اجمالي واردات الولايات المتحدة، وهو ما يعني ان عدد الدول التي ستتأثر بسياسات ترامب مباشرة هي دول محدودة العدد رغم نصيبها الأكبر في العلاقة التجارية، وهو ما يعني ان نطاق تأثيرها الجيواقتصادي المباشر سيكون محدودا (دون التغاضي عن الأثر غير المباشر عبر تداعيات التأثير على الدول الثلاثين).

وفي الشرق الأوسط تحتل إسرائيل المرتبة 21 بين الدول الأكثر صادرات لأمريكا، اما الدول العربية فان اغلب الدول العربية باستثناء السعودية (المرتبة 33) والعراق (45)، تقع بعد المرتبة 60 (الأردن المرتبة 63)، فإذا علمنا ان 163 دولة تقريبا تحوز على 10.4% من الواردات الامريكية، فذلك يعني ان تأثرها المباشر سيكون محدودا للغاية دون نفي التأثر غير المباشر استنادا لما يسمى دولاب المستقبلات (Futures Wheel).

اما التداعيات الداخلية على الاقتصاد الامريكي ذاته، فان اغلب الدراسات لا تبدو متفائلة بالقدر الذي يحاول فيه ترامب ترويجه، وتبدو الصين وكأنها عقدة ترامب، لاسيما ان صادراتها للعالم تتفوق على الصادرات الامريكية بحوالي 1.361 تريليون دولار مع عام 2024. ويبدو ان تاريخ ترامب في هذا الجانب لا يدعو للتفاؤل، فمثلا في عام 2018 (خلال دورته الاولى) عندما رفع الجمارك على الصلب ادخل 1000 وظيفة فقط على هذا القطاع، لكنه اخرج منه 75000 وظيفة وفق سجلات الحكومة الامريكية الرسمية، وقياسا فان سياساته الجديدة قد تخلق 80 ألف وظيفة، لكنها قد تخرج 12 مليون من العاملين في الصناعات التي تستخدم الصلب والالومينيوم على سبيل المثال لا الحصر.

من جانب آخر، هل تحول التجارة من الذهاب لأمريكا الى الذهاب لأسواق بديلة يقلص من الريع الذي سيجنيه ترامب من رفع نسبة الجمارك ويقلل من وزن الدولار في التبادل التجاري، فالاتحاد الاوروبي – وهو شريك مركزي للولايات المتحدة تجاريا- بدأ الآن البحث لعقد اتفاقات مع “ميركوسور” وهي الكتلة الاقتصادية لأمريكا الجنوبية، وبدأ المفاوضات مع المكسيك والهند وماليزيا، وهو ما تفعله الآن بريطانيا مع الهند وغيرها، وهذا اول الغيث قطر. كما ان محاصرة دولة عملاقة كالصين بحاجة لتعاون الأخرين من القوى الاقتصادية، فكيف سيتعاونون وترامب يرج الارض من تحت اقتصادهم.، بل ان بعض الدول مثل كندا والبرتغال او من دول الناتو الاخرى بدأت تبحث عن بديل لشراء الطائرة الامريكية الحربية اف 35 كرد فعل على سياسات ترامب. وقد اتضحت هذه الردود من بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تؤكد أن تصاعد الحرب التجارية سيؤدي إلى ارتفاع التضخم مما سيقود الى أن أسعار الفائدة ستبقى مرتفعة لفترة أطول، واشارت المنظمة الى أن “مخاطر كبيرة لا تزال قائمة، وأن المزيد من تجزئة الاقتصاد العالمي يبعث على قلق رئيسي، لأن الزيادات الأكبر والأوسع في الحواجز التجارية ستؤثر سلبًا على النمو العالمي وستزيد من التضخم”.

وللتدليل على مخاوفها أوضحت المنظمة في سلسة تقاريرها أن نمو الاقتصاد العالمي سيتباطأ من 3.2% في عام 2024 إلى 3.1% في عام 2025، ويعزى ذلك بشكل رئيسي إلى التوترات التجارية، وتتوقع المنظمة أن يبلغ معدل التضخم 3.8% هذا العام في 20 من أكبر اقتصادات العالم، مقارنة بـ 3.5% التي توقعتها  قبل اعلان ترامب لإجراءاته، وهو ما جعل المنظمة تخفض توقعاتها بخصوص  نمو الاقتصاد لبعض الدول المهمة مثل بريطانيا(الحليف الأهم لأمريكا) التي سينخفض نموها إلى 1.4% في عام 2025، بدلا من توقعاتها السابقة البالغة 1.7%، وإلى 1.2% في عام 2026، بدلا من 1.3% قبل إجراءات ترامب. وإذا اتخذت الدول الأخرى –كرد فعل- إجراءات (اقتصادية او ذات طابع امني) مضادة للإجراء الأمريكي سيتم رفع جديد للجمارك، فتزداد الإشكالية تعقيدا، فمثلا تدفع الشركات الأمريكية، وفقًا لتقديرات داخلية، أكثر من 200 مليار دولار سنويًا كضرائب على القيمة المضافة (VAT) للحكومات الأجنبية، وهو ما يُمثل “ضربة مزدوجة” للشركات الأمريكية التي تدفع الضريبة على الحدود الأوروبية، بينما لا تدفع الشركات الأوروبية ضرائب للولايات المتحدة على دخل صادراتها إليها ، وهو ما سيدفع لسياسات جديدة اقرب للمعاكسة منها للتعاونية بين “حلفاء”.

ان الضرورة تقتضي إدراك ان الاقتصاد الأمريكي يعاني بكيفية أعمق مما يظن ترامب بان اجراءاته ستحل المشكلة، فمثلا كان الناتج الصناعي الأمريكي يمثل 28.4% من اجمالي الناتج الصناعي العالمي عام 2001، لكنه الآن لا يمثل إلا ما نسبته 17.4%، أي انه تراجع 11% خلال عقدين تقريبا، ولعل ذلك يفسر انه خلال الفترة من عام 1997 إلى عام 2024، فقدت الولايات المتحدة حوالي 5 ملايين وظيفة في قطاع التصنيع وشهدت واحدة من أكبر الانخفاضات في العمالة في قطاع التصنيع في تاريخها.

وثمة مشكلة أخرى يواجهها الاقتصاد الأمريكي، إذ تتراوح التكلفة السنوية للاقتصاد الأمريكي نتيجة انتاج بعض الدول الأخرى للسلع المقلدة والبرمجيات المقرصنة وسرقة الأسرار التجارية ما بين 225 مليار دولار و600 مليار دولار. وهذه المنتجات المقلدة تشكل خطرًا كبيرًا على القدرة التنافسية للولايات المتحدة في هذه القطاعات.

ومع ان سياسات ترامب الجمركية قد تؤدي الى تخفيض الواردات الامريكية بنسبة 25% (حوالي 800 مليار دولار)، إلا ان تحليلا اقتصاديا أجري عام 2024 دل على أن فرض تعرفة جمركية عالمية بنسبة 10% من شأنه أن يؤدي إلى نمو الاقتصاد بمقدار 728 مليار دولار، وخلق 2.8 مليون وظيفة، وزيادة الدخول الحقيقية للأسر بنسبة 5.7%، مع ملاحظة ان الفارق الحالي بين نسبة الجمارك الامريكية على المستوردات وبين نسبتها في الدول الأخرى فارق واضح  من 3.5 الى 10 وفي بعض السلع الزراعية والصناعية يصل الفارق بين 2.5  في أمريكا الى 40% في الدول الأخرى ( بخاصة في قطاعات معينة مثل السيارات ، بعض الالكترونيات، الأرز، وبعض الفواكه مثل التفاح ..الخ).

ثمة بعد أخر لا يجوز اغفاله، وهو توجهات الرأي العام تجاه مخططات ترامب، فاغلب توجهات الرأي العام العالمي لا تؤيدها بما فيها في الولايات المتحدة، والمعارضة بين الديمقراطيين الامريكيين تصل حوالي 80%، كما ان نسبة المعارضة بين الجمهوريين تصل الى حوالي الربع، وبالعودة الى فترة ترامب الاولى نجد ان المعارضة لإجراءاته الجمركية في تلك الفترة (وهي اقل حدة من الحالية) كانت 68% في اوروبا ككل بينما في المانيا بلغت 85% وفي كوريا واليابان 82%

ومن الضروري ملاحظة ان ترامب قابل للتراجع عن مواقفه او تعديلها، ففي دورته الاولى اتخذ موقفا متشددا من اتفاقية النافتا ولكن عاد وتراخى في تطبيق تهديداته، وفي هذه المرة هناك حوالي خمسين دولة شرعت في التفاوض مع ترامب او اعضاء ادارته لهذا الموضوع، مما يعني ان المسافة السياسية بين الولايات المتحدة وكل دولة لا يجوز التغاضي عنها في تحديد نسبة الجمارك التي ستفرض على الواردات من هذه الدول.

الخلاصة:

من الضروري إدراك ان دبلوماسية ترامب تعتمد على “المساومة” لا على التشبث بمواقف قطعية رغم التشدد الشكلي في بداية التفاوض، وهو ما يعني ان عدم الاستقرار في شبكة علاقاته الدولية ستبقى في حالة خلخلة، كما ان الضغوط الداخلية بخاصة إذا تأكدت توقعات اغلب الخبراء بان حصاد سياساته الاقتصادية لن يتوازى مع مزاعمه فان التراجع هو الأرجح، كما ان تفضيلاته الممنوحة لروسيا ستبقى كسيف ديموقليس المعلق فوق رأسه… ربما.

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى