الأحد مايو 19, 2024
مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: تهريب التطبيع السياسي عبر الشخصية الفهلوية

يشكل التزاوج بين «القوة» و«المصلحة القومية» نقطة تلاق بين الثقافة الشعبية وفلسفة العلاقات الدولية في منظورها الواقعي، فالقوة بأبعادها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والعلمية والاجتماعية..الخ، ليست أداة للعرض المسرحي أو التباهي الأجوف بل هي الأداة المستقرة في التاريخ البشري لتحقيق المصالح القومية، وعليه فان مساحة المصلحة القومية تضيق وتتسع طبقا لما تسمح لها القوة بذلك، والسعي لتحقيق المصلحة القومية دون الاستناد للقوة كمن يطارد حوتا ليصطاده في عرض البحر وهو لا يعرف السباحة.

 وكنموذج على ما سبق ذكره نجده في الدبلوماسية العربية الرسمية، فبعض الدول العربية تريد تحقيق السلام مع إسرائيل وإنشاء دولة فلسطينية  مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، دون أن تمتلك عنصر القوة الضاغطة لذلك أو إذا امتلكت بعض عناصر القوة أو كلها فإنها لا تضعها موضع التنفيذ في سياستها الخارجية، لان الفعل السياسي العربي يستند لعقل سياسي اخترقته ثقافة «الفهلوة السياسية» التي أسهب كتاب عرب في شرح وتحليل خصائصها (حامد عمار، فؤاد زكريا، جمال حمدان،صادق جلال العظم..الخ)، وهذه الشخصية تتميز بـ«القدرة على التكيف الآني» أي الادعاء بالقدرة على مواجهة أي تغير بغض النظر عن «أخلاقية هذا التكيف» ثم الإفراط في تقديم نفسها بكيفية آسرة لمتلقي هذا التقديم من خلال التظاهر بإبداع آليات لم تخطر ببال الفرد العادي ، ثم التعالي على القدرة الجماعية والتركيز على القدرة الفردية للفهلوي ذاته.

ولما كان التشابك في العلاقات الدولية على درجة هائلة من التعقيد، فان الفهلوي يقدم هذا التشابك بتبسيط مفرط لغواية الجمهور بأنه قادر على الانجاز الكبير، وهو ما يعتقد انه يعزز مركزه.

ودعونا نقف عند ظاهرة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، لنرى أن جميع الاتفاقات العربية مع إسرائيل، ورغم مسيرة تسوية علنية (وسبقها تطبيع دبلوماسي سري) فاق عمرها 46 سنة (من زيارة السادات للكنيست عام 1977 إلى لقاء وزيرة خارجية  ليبيا مع وزير الخارجية الإسرائيلي هذا العام)، لم تؤد الدبلوماسية العربية السرية والعلنية إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية ولو مترا واحدا، ولا عادت القدس ولا  عاد اللاجئون ولا قامت دولة فلسطينية بل ولا حتى حكم ذاتي  بل لم ترق فلسطين المأمولة  للعضو العادي في الأمم المتحدة.

وهنا يتم طرح السؤال: لماذا هذا الفشل رغم أن الزعماء العرب كانوا مع إسرائيل أكثر كرما من حاتم الطائي؟ ورغم أن المشهد الدولي يشير يوميا إلى أنماط ضغوط عسكرية أو اقتصادية أو سياسية متبادلة بين كل وحدات النظام الدولي كبيرها وصغيرها وبين العظماء من هذه الوحدات؟

لو كنت أنا رئيسا لوزراء إسرائيل فلماذا أعطى تنازلا طالما أن الطرف الآخر ينشد ودي ولم يعد يمارس علي أية ضغوط ، فهو  يفتح أسواقه لي (حجم التبادل التجاري العربي الإسرائيلي بلغ عام 2022 طبقا للتقارير الرسمية الإسرائيلية ما مجموعه 3.473 مليار دولار)، ويشترى العرب سلاحا مني،  فطبقا لمعهد «sipri» المعروف بتخصصه في هذا المجال وصلت نسبة ما اشتراه العرب العام الماضي إلى 24% من إجمالي مبيعات السلاح الإسرائيلي البالغ  أكثر من 12 مليار دولار)، ناهيك عن سلسلة متلاحقة من اللقاءات الدبلوماسية والسياحة والمناورات المشتركة وبدء تعاون أمني …الخ.

لكن ثقافة الفهلوي لدى علماء الاجتماع السياسي تقول إن التطبيع يستهدف تحسين فرص التسوية مع إسرائيل، في الوقت الذي يميل فيه أغلب من اطلعت على دراساتهم من علماء العالم السياسيين شرقا وجنوبا وغربا وشمالا إلى القول أن حل الدولتين لم يعد متاحا. وان الاستيطان يتسع وان القدس عاصمة لإسرائيل.. ومع أن كل استطلاعات الرأي العام العربي تشير لمعارضة شعبية وبنسبة كاسحة للتطبيع مع إسرائيل، لكن الفهلوي لا يرى في الرأي العام إلا قطيعا  بينما هو وحده  من  «يعلم السر وأخفى».

وتمتد ثقافة الفهلوة إلى إبداع جديد وهو الإصرار اللفظي على «حقوق الفلسطينيين» دون ممارسة أي شكل من أشكال الضغط الفعلي الملموس، وفي نفس الوقت الذي يقال فيه لا تطبيع دون «حل الدولتين» نجد فتحا للأجواء للطيران المدني الإسرائيلي والسماح لوفود تجارية إسرائيلية بالدخول للأراضي العربية، ولقاءات على «هامش مؤتمر هنا وهناك»، وهو ما سيوصل إلى فتح للتجارة ثم التعاون من خلال “مبادرة الحزام والطريق الصينية ومن خلال الممر الاقتصادي الهندي الذي أعلنت عنه الهند في الأيام الماضية ورحبت به الولايات المتحدة وإسرائيل بقوة،

وليس شرطا أن نتقدم فعلا لا قولا نصف خطوة في اتجاه الدولة الفلسطينية المستقلة للتعاون في هذه المشروعات، بل سنصل إلى التعاون العسكري والأمني.. من خلال تهريب التطبيع قطعة قطعة على طريقة الحب عند احمد شوقي «نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء»،

إنها ثقافة الفهلوي التي أدركها تماما «رفائيل باتاي» في كتابه المشهور «The Arab Mind»، بان العرب  ينظرون لأقوالهم بأنها فعل ناجز، ويرضون ذاتهم بالمبالغة في القول ليقنعوا أنفسهم بأنهم أنجزوا ما يتوازى مع مضمون القول، ويتضح ذلك في السياسة، فالقادة العرب مسجونون في «قفص القول  لكنهم يتوهمون الطيران في الفضاء».. فهم يريدون إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس بتخفيض الضغط على إسرائيل عبر منع المقاومة وتجارة الغاز معها ومشاركتها في الماء والتحول لاتفاقات المناطق التجارية وما خفي أعظم.. تلك هي الشخصية الفهلوية التي «تضغط دون ضغط» وتحول الفشل إلى نجاح مدو يجري الترويج له بالأغاني والشعر والصور والخطابة والإطلال الدائم من على شاشات التلفاز وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي.. وهنا ينام الفهلوي قرير العين.. ثم يشرح لكم في الصباح ما رآه من أحلام سعيدة.

Please follow and like us:
د. وليد عبد الحي
أستاذ علوم سياسية، الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب