د. وليد عبد الحي يكتب: طوفان الأقصى.. ملامح المشهد الحالي
لعل أحد السمات التاريخية للصراع العربي الصهيوني أنه صراع «لا يعرف الحلول المتكاملة»، فكل مشروعات التسوية منذ قيام المشروع الاستيطاني في فلسطين تنتهي بأنصاف حلول، لكن الطرف الصهيوني يُحسن تطوير نصفه بينما يتناحر العرب فيما بينهم على نصفهم.
لا يبدو أن تداعيات «طوفان الاقصى» ستتجاوز هذا الإرث التاريخي في آليات إدارة الصراع بين الطرفين، ويكفي أن نقف عند المشاهد التالية:
أولا: الطرف الصهيوني:
تتمثل الخطوط الرئيسية للتوجه الصهيوني في توافق واسع بين القوى السياسية الحاكمة في إسرائيل على ما يلي:
اجتثاث المقاومة الفلسطينية بخاصة في جناحها الديني من قطاع غزة كمقدمة لمنع فسائل هذه الحركة من التنامي في بيئة الضفة الغربية.
منع قيام كيان فلسطيني يتجاوز في أقصى ملامحه إقليم «فلسطينستان»، وتقتصر صلاحياته على «إدارة ذاتية في الشأن الداخلي» وتقودها شخصيات تكنوقراطية غير منتمية وذات تربية براغماتية بحتة وترضي الانساق الاجتماعية الفرعية في المجتمع الفلسطيني، ولعل ذلك سيكون جوهر إعادة مناقشة المبادرة العربية لعام 2000، مع تعديلات سيحددها ميدان المعركة.
مواصلة البحث في إيجاد تطبيق غير مكلف لقاعدة «الدولة اليهودية» من خلال التخلي عن «أقل قدر ممكن من المساحة الجغرافية الفلسطينية ذات الأكبر قدر من السكان».
توسيع قاعدة التطبيع مع الدول العربية على أساس التحويل التدريجي للصراع من اصوله الصفرية إلى توجهاته غير الصفرية، وكلما اتسعت الدائرة غير الصفرية تراجعت مساحة التناقض العربي الصهيوني تمهيدًا لطي المركزية الفلسطينية في العلاقات العربية الصهيونية، وقد يشمل هذا التحويل ابعادا سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية.
لكن شكل وطبيعة الكيان الفلسطيني بخاصة إذا تزايد التأييد الدولي لدولة فلسطينية -حتى بتعديلاتها الصهيونية-، قد يفتح مجالا لصراع داخلي في المجتمع الاسرائيلي، فالقبول بدولة فلسطينية سيفجر خلافا حادًا بين القوى الإسرائيلية، وعدم القبول سيخلق مآزقا مع المجتمع الدولي.
ثانيا: الطرف الفلسطيني:
تبدو ملامح الطرف الفلسطيني في المعركة الدائرة على النحو التالي:
مقاومة عنيدة وفاعلة لكن العبء الناتج عن الخسائر البشرية وشبه انعدام المساعدات الانسانية -طبقا لوصف المنظمات الدولية المحايدة- يشكل ضاغطا هائلا على المقاومة.
بيئة المقاومة الاقليمية: ينقسم المسرح الاقليمي تجاه المقاومة الى ثلاثة:
محور المقاومة والذي يشكل السند الاقليمي الوحيد والفاعل بمعايير المشهد العام للمسرح الاقليمي، لكنه حتى اللحظة قاصر عن فتح افاق الخروج من المآزق الاستراتيجية.
محور المساندة الضمنية من الشارع العربي، وهي مساندة لا تتجاوز حتى الآن البعد المعنوي على غرار «دور المشاهدين» لبطل المسرح.
محور «ما وراء الستار» والذي يضم أغلب الأنظمة العربية التي تتلهف على اجتثاث المقاومة الفلسطينية بخاصة ذات التوجه الديني، وهذه الانظمة تنسق تنسيقا تاما مع إسرائيل في تحويل الواقع الاقليمي نحو المنظور غير الصفري، ولكنها تتدثر لستر عوراتها بأدبيات الشجب والإدانة والضجيج الأجوف.
ثالثا: الطرف الدولي: وهنا نجد أيضا أطرافا أربعة:
القوى الدولية الفاعلة، وإذا استثنينا الولايات المتحدة المتوافقة مع اسرائيل بنسبة عالية جدا، فان أوروبا أصبحت أقل انحيازا من السابق، هي ما تزال منحازة لكن درجة الانحياز تتقلص في حدود معينة، وكان آخر شواهد ذلك امتناع بريطانيا عن مساندة أمريكا في مشروع القرار الجزائري في اجتماع مجلس الامن الاخير والداعي لوقف إطلاق النار.
والملفت للنظر هنا هو موقف الصين التي كررت في مجلس الأمن وفي مرافعتها في محكمة العدل الدولية «حق الفلسطينيين» في المقاومة المسلحة، وهو الموقف الذي لم تتجرأ على إعلانه أغلب الدول العربية، بل إن وزير خارجية مصر حرض المجتمع الدولي على المقاومة الفلسطينية واتسق تماما مع توجهات نيتنياهو.
أما الموقف الروسي فما زال يراوح مكانه، ويحاول أن يتصيد مواقف يستخدمها لإحراج الإعلام الغربي عند تذكيره بما جرى في أوكرانيا، رغم مساندته لوقف إطلاق النار ودعواته للتنظيمات الفلسطينية للقاء في موسكو لتوحيد المواقف.
القوى الدولية الأخرى:
لعل السمة العامة لبقية قوى المجتمع الدولي هي التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين، أي غلبة التعاطف الإنساني دون ربط ذلك بإجراءات سياسية باستثناء بعض المواقف لجنوب أفريقيا والبرازيل وكولومبيا وبوليفيا وبعض الدول الأفريقية والآسيوية.
استمرار التعاطف من الرأي العام الدولي مع المدنيين الفلسطينيين وبشكل يشير إلى تزايد هذا التعاطف مع تناقص في التعاطف مع إسرائيل بخاصة في الولايات المتحدة وطبقا للمصادر الإسرائيلية.
المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وهي في اتجاهها الأعظم أقرب لموقف الشارع الدولي في التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين.
متطلبات الموقف:
على المقاومة أن لا تطمئن لا طراف المفاوضات في باريس أو القاهرة، فكلهم خصوم لها، أمريكا وإسرائيل بشكل مباشر، ومصر اتضح موقفها من تصريحات وزير خارجيتها ومن الخنق المتعمد لمرور المساعدات ومن العداء لحماس والذي عبر عنه السيسي بوضوح لا لبس فيه في بحثه في اكاديمية الدفاع الأمريكية خلال دراسته في أمريكا وما زال على موقفه هذا، وفي تصريحاته اللاحقة والتي لم تتضمن أية إشارة لحق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة بل وصف في مؤتمر صحفي أنه القضاء على المقاومة هو «هدف نبيل»، أما موقف قطر، فهي حصان طروادة الأمريكي، وليس مطلوبا من المقاومة العداء لقطر الآن، لكن النوايا الحسنة أقصر الطرق إلى جهنم، وقطر ليست أكثر من «عسس» على خصوم أمريكا.
لا بد للمقاومة من توظيف إيران والجزائر وسوريا والبرازيل وجنوب أفريقيا …الخ لإقناع الصين لتكون طرفا في مفاوضات وقف إطلاق النار، فهي دولة توافق على المقاومة المسلحة، ولها مصالحها في المنطقة، ولها علاقات مع إسرائيل وأمريكا، وهي أهون شرور المفاوضين عند المقارنة.
الاتجاه الأعظم:
من الواضح أن نيتنياهو لن يتراجع عن القضاء على المقاومة أو اضعافها إلى أقصى حد ممكن، وهو مطمئن لمواقف كل دول التطبيع وإلى عدم تراجعها عن العلاقات مع إسرائيل مهما فعلت وتنكرت للوصاية على الاقصى أو البقاء على شريط نهر الاردن، وتعتمد هذه الاستراتيجية الصهيونية في اتجاهها -نجاحا أو فشلا- على رد فعل ثلاثة أطراف هي: محور المقاومة، وتحمل المدنيين في غزة، وصمود المقاومة.
على المقاومة أن تعلن تباعا عن موت رهائن إسرائيليين في القصف الإسرائيلي للبيوت والمؤسسات، وأن لا تعلن اسماء القتلى، فمن الضروري توظيف الرهائن في إدارة المعركة، وفي تاريخ التفاوض مع اسرائيل يتبين ان أثمان الجثث متساوية مع أثمان الاحياء.
يجب أن تتنبه المقاومة لغدر «أرامل» أوسلو الذين يتسابقون لتقديم أوراق اعتمادهم ليكونوا حكام ما بعد الطوفان، إن تصريحات «بيتان» وفريق فيشي الفلسطيني تشير إلى تنافس حاد للغاية بينهم على من يفوز برضا الإدارة الأمريكية والإسرائيلية ليتربع على كرسي مغروس فوق جثث أكثر من 30 ألف فلسطيني وفوق أطلال غزة، وأن العودة لبناء منظمة التحرير يجب أن يكون بعيدا تماما عن «بيتان» الفلسطيني وحكومة فيشي الفلسطينية.
أخيرا، إن المهمة هي العُسر بعينه، وان الطعنات ستتلاحق عبر اغلاق المعابر على غزة وفتحها عبر ممرات «ابراهام» وعبر تنسيق يدور في اجهزة مخابرات تخترق كل مؤسسات الدول العربية.