الخميس يوليو 4, 2024
بحوث ودراسات

د. وليد عبد الحي يكتب: غزة وحسابات المصالح

منذ أن اندلعت مواجهة «طوفان الأقصى»، أشرت وفي أكثر من مقال إلى ضرورة أن تبني المقاومة حساباتها في هذه المعركة على الأسس الإستراتيجية التالية:

1- أن الهدف الرئيسي لإسرائيل هو تصفية المقاومة في غزة ونزع سلاحها، وان إسرائيل تراهن على الآتي:

أ‌- المراهنة على استنزاف المقاومة عسكريا إلى حين الوصول إلى أقصى درجات الاستنزاف في العتاد تحديدا من صواريخ وقذائف وذخيرة خفيفة ومتوسطة، لا سيما أن الصاروخ أو القذيفة أو الطلقة التي تذهب يصعب تعويضها الفوري أو السريع، وهو ما تحاول المقاومة الآن تعويضه من خلال قصف من الجنوب اللبناني للأهداف الإسرائيلية تختلط فيه المسؤولية بين حزب الله وبين المقاومة الفلسطينية، لكنه يوفر مخزون العتاد في غزة إلى حد ما من جانب ويبقي القدرة على الرد قائمة استنادا لمخزونات حزب الله من جانب آخر.

ب‌- المراهنة على استمرار النقص في المواد التموينية والماء والكهرباء والدواء ليموت الناس إما بالسلاح الإسرائيلي أو بالجوع والعطش والمرض، وهو ما يزيد العبء على كاهل المقاومة بخاصة مع استمرار التنصل المصري والضغط الإسرائيلي المسنود غربيا لعرقلة تدفق المساعدات إلى القطاع.

ج- المراهنة على أن الموقف الرسمي العربي لن يتغير قيد أنملة، وان الموقف الشعبي العربي سيبقى يتراوح بين الأناشيد وبين الدعاء لله.

ث‌- استخدام القنوات الخلفية لإطلاق سراح الإسرائيليين المدنيين أولا ثم العسكريين عبر المزاوجة بين الضغط العسكري الإسرائيلي من ناحية والغواية القطرية بدعم مالي وإعلامي للمقاومة من ناحية ثانية، وهو ما قد يفتح مجالا لخلافات بين التنظيمات الفلسطينية حول هذه النقطة تحديدا،لاسيما أن لدى الجهاد الإسلامي عدد غير قليل من الجنود الإسرائيليين.

ج‌- من دراستي العلمية والتفصيلية لشخصية نيتنياهو أرى انه لن يتراجع عن «تحقيق انجاز» يعزز موقفه مهما تلطخ هذا الموقف بالدم الفلسطيني أو حتى بالدم الإسرائيلي.

د‌- العمل على وضع غزة بكيفية أو أخرى تحت سلطة التنسيق الأمني الفلسطيني، ولا يساورني أدنى شك أن قيادة سلطة التنسيق الأمني في الضفة الغربية مشغولة بمنع انفجار الأمن في الضفة من ناحية وبعدم انتصار المقاومة في غزة أو خروج هذه المقاومة وقد احتفظت بقدر كاف من عافيتها العسكرية من ناحية ثانية.

2- الموقف العربي: يقتصر الموقف العربي الاستراتيجي في قوتين أساسيتين في هذه المعركة وهما:

أ‌- محور المقاومة:

ليس أمام هذا المحور إلا مسارين هما:

إما أن يدخل المعركة دخولا كاملا أو أن يبقى يراوح في حدود المشاركة في مستوى «اللسع العملياتي» لا أكثر، ويمكن أن يضع الدخول البري الإسرائيلي إلى غزة هذا المحور في وضع حرج للغاية، لان عدم فتح جبهات محور المقاومة- في حالة وقوع الحرب البرية- سيفقد هذا المحور مصداقيته الشعبية من ناحية، وسيعطي إسرائيل شعورا بحدود ضيقة لمناورات هذا المحور إذا بلغت المعركة ذروتها عبر الحرب البرية من ناحية ثانية.

ويبدو لي -كافتراض أولي- أن هناك خلافا بين أطراف المحور حول مستوى التدخل في المعركة، إما بين الأطراف (إيران- حزب الله- أنصار الله- الحشد الشعبي العراقي- مع تشاور مع سوريا) أو هناك خلافا داخل بعض الأطراف ذاتها، ويبدو أن غياب السيد نصر الله عن الظهور أو الخطاب أو التصريح يثير القلق ويزيد الحيرة من هذا الجانب، فهل هناك خلافات في قيادة حزب الله؟، أو أن الحزب إما لا يريد توسيع المواجهة أو أن إيران تضغط عليه لعدم توسيع دائرة المواجهة، اللهم إلا إذا كان في الأمر «دهاء» لا يعرف احد ملابساته، والخلاف في التقدير الاستراتيجي لمثل هذه المواقف أمر طبيعي ومتوقع وغير مستهجن، فهو -مثلا- موجود بين القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية من ناحية وبين إسرائيل وحلفائها ولكن في بعض التفاصيل لا كلها.

واعتقد أن الاختبار الوحيد الباقي هو الحرب البرية، فإذا لم ينضم محور المقاومة وبشكل يتوازى مع مستوى الفعل الإسرائيلي في غزة في حربها البرية، فإني أجزم أن ملف محور المقاومة سيوضع فوق ملف «جبهة الصمود والتصدي» العربية.

ب‌- الموقف المصري:

بدون مواربة وبكل وضوح، الموقف الرسمي المصري يتطابق تماما مع الموقف الإسرائيلي من حيث التهلف على «طي صفحة المقاومة في غزة» وبخاصة أن مصر الرسمية لا ترى المقاومة إلا كامتداد لحركة الإخوان المسلمين التي تقف على رأس هواجس النظام السياسي المصري. ولعل ملابسات معبر رفح تشير إلى ذلك بوضوح، فتهيئة المعبر من الجانبين المصري والفلسطيني أمر أيسر كثيرا من الناحية اللوجستية مما يتم الترويج له، فالجيش المصري الذي بنى جسورا عائمة فوق قناة السويس في ساعات قليلة في حرب أكتوبر لعبور آلاف الجنود والدبابات عام 1973 رغم القصف الجوي والبري الإسرائيلي عليه وبكثافة أكثر كثيرا مما يجري الآن.. فهل يعجز هذا الجيش عن تأهيل سريع لمعبر رفح لعبور شاحنات الإمدادات المدنية ؟

نعم مصر ترفض التهجير لأنها «تختلف في الرأي» مع إسرائيل في أن التهجير «سيورط مصر» في القضية الفلسطينية ويعيدها ثانية لميدان هذه القضية، وهو أمر يحرص النظام السياسي على تجنبه تماما إلا في «التعاطف السياسي» لا أكثر، فمن يبني جدرانا حديدية تحت ارض رفح لمنع تهريب البضائع لغزة لن يفتح ما فوق الأرض إلا بعد التنسيق مع الطرف الأمريكي والإسرائيلي ومقابل منافع مادية صرفية قد تكون الديون إحداها.

أما الشعب المصري في معظمه، فموقفه معروف وتعاطفه مع المقاومة لا حدود له، لكن وزن الشارع المصري في صناعة القرار السياسي الرسمي تكاد لا تذكر،شأنها شان الشوارع العربية كلها، فالنظم السياسية العربية لا تعتبر الشارع جزءا من متغيرات صنع القرار، لان كل راع مسئول عن «رعيته»، فلا دور للقطيع في قرارات الراعي.

3- الموقف الدولي: يتضح الموقف الدولي في المؤشرات التالية:

أ‌- لم يؤيد مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار إلا خمس دول من 15 دولة..

ب‌- استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو ضد مشروع القرار البرازيلي في مجلس الأمن رغم أن مشروع القرار يدين هجمات المقاومة ولكنه يدعو لوقف إطلاق النار. ورغم تأييد 12 دولة للمشروع البرازيلي إلا أن الولايات المتحدة تبنت الموقف الإسرائيلي واستخدمت حق النقض ليستمر القصف الإسرائيلي ليزداد الضغط على المقاومة.

ج‌- التوافد الغربي من خلال قيادات هذا الغرب إلى فلسطين المحتلة للإعراب عن التأييد المطلق لنيتنياهو بل وتبني المطالب الإسرائيلية دون أي تحفظ باستثناء عدم التشجيع لإسرائيل على توسيع المعركة والانتقال بها لحرب برية قد تصل إلى مواجهة إقليمية يستفيد منها الروس والصينيون وترتفع أسعار النفط وتضطرب التجارة الدولية والنقل البحري بكل ما لذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية واجتماعية على الغرب.

ذلك يعني:

1- أن مستقبل المقاومة في غزة أولا ومحور المقاومة في المنطقة ثانيا يحتاج لحسابات بـ«بيض النمل»، ومستقبل هذا المحور مرهون بمشاركة تامة في المعركة إذا تحولت إلى برية وبتصعيد يتوازى مع كل تصعيد إسرائيلي.

2- النظام الرسمي العربي لا يقل لهفة عن إسرائيل للتخلص من المقاومة مهما ادعي غير ذلك، فحتى رغم وصول القتلى والجرحى الفلسطينيين إلى قرابة العشرين ألفا لم يتم اتخاذ أي إجراء عربي واحد (أكرر لم يتخذ أي نظام عربي إجراء واحد له دلالة)، فالتطبيع والسفراء الإسرائيليون في مكانهم وحصانتهم، ووكيل دبلوماسية الإنابة يواصل الجمع بين «سيف العدو وذهب المُعزْ»، فالنظام الرسمي العربي لا ينظر للمقاومة إلا أنها «أذرع إيرانية يجب قطعها» أو امتداد لحركة الإخوان المسلمين ذات الشعبية العريضة في الشارع العربي بشهادة الانتخابات البرلمانية (حتى مع التزوير) وبشهادة استطلاعات الرأي العام العربية والغربية والإسرائيلية، فهي حركة تراها بعض الدول «خطرا» ولا تريد أن ينجح لها أي مشروع يعمق شعبيتها.

ورغم أخطاء هذه الحركة بخاصة في بعض تحالفاتها التاريخية (التي تحولت الآن عدوا لها) أو تحالفاتها المعاصرة مع الخليفة العثماني (عضو الناتو والشريك التجاري والسياحي الأول لإسرائيل و١٢ اتفاقية أمنية مع إسرائيل) لكنها تعبير عن إرادة قطاع كبير من المجتمع العربي يجب احترامه من جانب كل من يحترم إرادة الشعوب.. فمن يختلف مع هذه الحركة فكريا فهو يمارس حقا طبيعيا، لكنه يجب أن يحترم إرادة الغالبية إن لم تكن الغالبية في صفه، وهذه قاعدة لا يقبلها النظام السياسي العربي الرسمي.

Please follow and like us:
د. وليد عبد الحي
أستاذ علوم سياسية، الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب