مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: غزة.. و«مواطن الشبهات»

في المشهد السياسي والعسكري والإنساني في طوفان الأقصى أمور لا تحتاج لتوضيح (بسالة وتحمل المقاومة لضغوط هائلة، والعنف الهمجي الصهيوني، والتعاطف الشعبي العربي وغير العربي مع المقاومة او مع الانسان الفلسطيني في غزة، والفقدان المتزايد لمقومات الحياة لسكان غزة، والاصرار المصري على طي ملف المقاومة الاسلامية في غزة، ثم الدعم الامريكي غير المحدود لاسرائيل).

بالمقابل ثمة أمور مشتبهات،

أولها  موقف محور المقاومة، 

فهو موقف ملتبس، فايران تحذر من الانزلاق نحو التحول في الصراع الى مستواه الاقليمي، لكنها تعمل بكل نشاط لمنع وقوع ذلك بل وتشير أغلب توجهات الدبلوماسية والتقارير الايرانية الى الضغط بهذا الاتجاه، وخلفية الموقف الإيراني في هذا الجانب هو أن إيران تعتقد أن إسرائيل تريد الضغط باتجاه مواجهة أمريكية إيرانية تنتهي بتحطيم إيران على غرار ما جرى في العراق، وهو «الكمين» الذي لا تريد إيران التوجه صوبه، لكن إيران لكي لا تبدو جاحدة، تضغط باتجاه تكتيك واضح هو تنشيط حلفائها بقدر ينجيها من لوم الفرع الفلسطيني في محور المقاومة لها، فهل الأمر كذلك؟

المشتبه الثاني موقف دول التطبيع العربي الرسمي

(وهي 6 دول إضافة لسلطة التنسيق الأمني) والتطبيع غير الرسمي وبقنوات خلفية (دولتان)، والاشتباه في مواقف هذه الدول هو الفجوة الهائلة بين القول (بيانات وتصريحات) وبين الفعل (قطع العلاقات باشكالها المختلفة مع إسرائيل)، وهذه الفجوة تشير إلى أن القول وعلو الصوت لا يخفي  التنسيق الخفي والضمني مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وأنا هنا اضع مؤشرا محددا على الاشتباه في مواقف هذه الدول: لماذا لا  تطرح دول التطبيع على شعوبها استفتاء فيه سؤال واحد محدد جدا هو: هل توافق على قطع كافة العلاقات مع إسرائيل :نعم/ لا؟ 

وسأكون أول المصفقين للعلاقة مع إسرائيل إذا كان أغلب الشعب موافق على ذلك، ولكن لماذا لا يتم طرح السؤال، لأن مصلحة النظام تعلو على مصلحة المجتمع والدولة والدين والتاريخ والأخلاق، فاستمرار المقاومة لا يتسق مع «أولوية النظم» وتحالفاتها الدولية التي تريد بقاء هذه النظم، ويكفي أن نتوقف عند عدد العرب الذين شاركوا في القتال ضد روسيا في افغانستان وأشرف على إرسالهم مؤسسات هذه الدول العربية الأمنية والعسكرية، وتصل بعض التقديرات إلى أن عدد السعوديين الذين ذهبوا لساحات المعارك في أفغانستان تراوح ما بين 12-20 الف مقاتل، وأنها دعمتهم في العام الاول بحوالي 800 مليون دولار.. وقدر مدير الاستخبارات الباكستانية الأسبق حميد غول أن المجاهدين العرب في افغانستان  تجاوزوا «38 ألفا».

وبعد أن أدى هؤلاء «المجاهدون» المطلوب أمريكا وعربيا، انقلبت عليهم دولهم وبدأت في مطاردتهم. فهذه الدول وقفت ضد الاتجاهات القومية (ناصر والبعث ..الخ) ووقفوا ضد اليسار (في اليمن وفي مطاردة الأحزاب الشيوعية) ووقفوا ضد الليبرالية والانتخابات والأحزاب وتداول السلطة، ووقفوا ضد الحركات الإسلامية بعد أن استغلتهم في حروبها  مع  الآخرين، فلا هم:  قوميون ولا ليبراليون ولا شيوعيون  ولا إسلاميون.. هم سلطويون فقط.

المشتبه الثالث هو التفاوض حول الرهائن أو الاسرى،

فوجود ديفيد بارنيا (رئيس الموساد) في قطر يستوجب سؤالا محددا: لماذا قطر؟ فمصر تشارك في التفاوض لجوارها الجغرافي ودورها في الحصار على غزة ووزنها العربي..الخ، أما قطر فالأمر بحاجة لتفسير، فهي تدفع للمقاومة «لكي تجد أذنا فلسطينية تسمعها لنقل ما تريده إسرائيل والولايات المتحدة» وهي قناة للتواصل بين كل خصوم الولايات المتحدة في الشرق الاوسط وأفريقيا وآسيا وبين الحركات الإسلامية في هذه المناطق بما فيها فلسطين، وكل ذلك مقابل حماية قطر من جوارها العربي وغير العربي (وتتذكرون أزمتها  الحادة جدا مع مجلس التعاون الخليجي ومصر لأنها فازت من دونهم بآلة دبلوماسية الإنابة)، وما وجود أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط فيها إلا دليل قاطع على دورها المشتبه..

بل ان تصريح  زياد نخالة عن «أن مسار التفاوض حول الرهائن لدى المقاومة قد يضطرهم للذهاب نحو خيارات أخرى» دليل على أن المقاومة تتعرض لضغوط قطرية مصرية  للاستجابة للشروط الأمريكية والإسرائيلية العاجلة مقابل ما هو أقل من مطالب المقاومة.

المشتبه الرابع هو الموقف الروسي والصيني،

فمن المؤكد أن انتقال كل كاميرات الإعلام وكل النشاطات الدبلوماسية الهامة في الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية إلى غزة، يجعل روسيا في وضع أكثر من مريح  لترتيب أمورها في جبهة أوكرانيا، ويتقلص المدد الغربي ضدها، وتتقلص المساحات الزمنية في الإعلام الغربي ضدها، وهو أمر يثير الاشتباه في رغبتها في استمرار معركة غزة لصالح روسيا رغم الدعوات لوقف إطلاق النار والتي من المؤكد أن روسيا تدرك تماما أنها لن تقبل لا من إسرائيل ولا من الولايات المتحدة إلا ضمن شروط قاسية.

أما الصين، فإن النزعة البراغماتية الطاغية على الدبلوماسية الصينية يجعلها ترى أن حجم منافعها مع إسرائيل بخاصة في مجال التعاون التكنولوجي وتيسير نجاح مبادرة الحزام والطريق ومزاحمة مشروع الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي أهم  كثيرا من انتصار المقاومة أو خروجها معافى من الهجوم الإسرائيلي الأمريكي، ولكنها تستفيد من احتمالات التورط الأمريكي لتتفرغ الصين لتايوان، ومن يتابع الإعلام التايواني يتلمس القلق من الانعكاسات السلبية لمعركة غزة على الموقف في تايوان، وهو ما يفرز اشتبها بالنوايا الصينية والتي قد تبحث عن دور أكبر في استئناف التسوية السياسية بين الفلسطينيين وإسرائيل.

إن وضع المقاومة كمن يحفر صخرا برموش عينيه، ورحم الله مظفر النواب:

على أيِ جرحٍ تشُدُ الوثاقا

وأيُ القبور تريد عناقا

وحولك الآن مقبرة

هكذا أمةٌ تتلاقىْ.

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى