د. وليد عبد الحي يكتب: ليبيا بين «جنون الوهم» و«وَهم الجنون»
مرت ليبيا في الزمن المعاصر بمرحلتين:
1- المرحلة الأولى من 1969 إلى 2011،
وهي مرحلة معمر القذافي الذي كان يعاني من «نرجسية مرضية»، واعتراه وهم كبير بأنه مفكر وصاحب نظرية سياسية رائدة، وقد اصطدمت معه عبر عبد السلام جلود في ندوة للجمعية العربية للعلوم السياسية شاركت فيها في عاصمته طرابلس حول نظريته المزعومة (وسترها الله وخرجت من ليبيا سالما)، لكن ملك ملوك إفريقيا والمفكر وزعيم الجماهيرية «العظمى» تنتابه لحظات لا أراها منفصلة عن سقوطه عن إحدى الجمال وهو صغير وتسببت له في نوبات عصبية لفترة من الزمن وكانت تعاوده بين الحين والآخر، بل إن إحاطة نفسه بحرس من الحسان الأمنيات يشير إلى ذكورية متورمة، كما أن البترول زوده بقدرة مالية لتعظيم جماهير المصفقين له من الكتاب والإعلاميين وأساتذة الجامعات بل والتنظيمات المختلفة في المنطقة العربية وإفريقيا.
لكن هذا المصاب بجنون وهم المفكر وملك الملوك لم يكن خائنا بالمعنى المباشر لكلمة الخائن، فهناك نوعان من الخونة: الخائن الذاتي وهو الذي يعمل مع احد الأجهزة سرا ويتقاضى على ذلك أثمانا مادية وغير مادية، وهناك الخائن الموضوعي، وهو الذي تقوده سياساته الخاطئة والموهومة إلى نتائج لا تقل عن نتائج العميل الذاتي بل كثيرا ما تفوقها، فالقذافي كان مثالا حيا للعميل الموضوعي، رغم أن عداءه للاستعمار وإسرائيل ووقوفه إلى جانب بعض قضايا التحرر أمر ليس لدي شك فيه،وقد يشك في ذلك غيري إذا اختلط عليه الفرق بين الخائن الذاتي والخائن الموضوعي.
2- المرحلة الثانية: من 2011 إلى 2023،
وهي مرحلة اختلط فيها الحابل بالنابل، واستيقظت القبلية والجهوية، وبلغ الأمر حد الاستعانة بحلف الناتو عسكريا للخلاص من «جنون الوهم»، وتدفق المال الخليجي لتمويل الثأر المكبوت محليا وإقليميا ودوليا، وتوهم بعض متوهمي العلمانية أنهم سيحولون ليبيا إلى «النموذج العصري للدولة الوطنية» وهو التيار الذي توهم محمود جبريل أنه يقوده، لكن الوهم الأكبر هو الذي مثلته الحركة الدينية الليبية وبخاصة الأخوان المسلمين، فالي جانب مناشدات رموز دينية للناتو بالتدخل للثأر من «مجنون الوهم» وتبني إعلامي لقناة الجزيرة لكل ذلك باعتبارها أداة إعلام الإخوان المسلمين الرئيسية، توهم هؤلاء أن الجنون سيوصل إلى استقرار اجتماعي وسياسي، ولعل ذلك يستحق التوقف فيه عند الفجوة بين أدبيات الإخوان المسلمين النظرية (والتي تراكمت منذ أزمتهم مع عبد الناصر وغذتها ثآليل الاستعمار في الإقليم) وبين سلوكهم الفعلي، فمنذ رسالة محمد مرسي لشيمون بيريز مرورا بطأطاة الرأس في المغرب للتطبيع رغم أن سلطتهم التنفيذية هي القائمة على إدارة هذا الشأن وهم الكتلة الأكبر في السلطة التشريعية المغربية، وغض النظر بل لعله التعامي عن التطور المتسارع للعلاقات التركية الإسرائيلية في ظل «إخوانية تركية» براغماتية صرفة، مرورا بتردد حزب النهضة التونسي في دعم تشريع يمنع التطبيع، وبرد الفعل الخجول في السودان على تطبيع البرهان وحميدتي أيضا مع إسرائيل، وصولا حاليا إلى تطبيع الجناح الإخواني الليبي الداعم لرئيس الحكومة الليبية الحالي عبد الحميد الدبيبة مع إسرائيل والذي هو في تقديري استمرار لما أشرت له سابقا في مقالات عديدة من أن احد أهدافه تطويق الجزائر وبخاصة في ظل أزمة النيجر بشكل خاص ودول الساحل الإفريقي بشكل عام، فإسرائيل لا تنسى دور الجزائر في حرمانها من مقعد المراقب في الاتحاد الإفريقي، ولا دورها في مساندة القضية الفلسطينية ورفضها للتطبيع في قطاعاتها الشعبية والرسمية.
ومن الضروري طرح بعض الملاحظات على قفزة التطبيع الليبية الأخيرة:
أ- سربت إسرائيل خبر لقاء وزيرة خارجية ليبيا بوزير خارجية إسرائيل وبدور ايطالي ملتبس حتى الآن، ومن الضروري الإشارة إلى أن كل عمليات التطبيع المموهة يتم كشفها من جانب إسرائيل، وأنا لا أرى هذا الكشف يتم اعتباطا وبعشوائية، بل هو مقصود ومتفق عليه بهدف ترويض الحس الشعبي تدريجيا لقبول الأمر لاحقا بفتح السفارات وإحياء «أبراهام» ليمتد من صحراء الربع الخالي إلى الصحراء الكبرى.
ب- إدعاء الدبيبة انه لا يعلم، وهو ما يشير إلى وهم الاعتقاد أن العالم العربي قطيع من المجانين ستنطلي عليهم مثل هذه الإدعاءات، فهل يعقل أن وزيرة خارجية ليبيا تُقْدم على لقاء خطير جدا كهذا دون التشاور مع رئيسها على اقل تقدير؟
ج- افتعال فوضى حول ردود الفعل بان الدبيبة عزلها أو لم يعزلها: إذا كانت الوزيرة تصرفت بمفردها، فهي أقدمت على فعل تجسسي واضح طبقا للقوانين الليبية، فلماذا لا تحاكم بتهمة التجسس؟ ويجري التحفظ عليها إلى حين البت بقضيتها قضائيا بدلا من السماح لها بالمغادرة إلى لندن وكأن شيئا لك يكن؟ أم أن ما وراء الأكمة الكثير المقلق للدبيبة فقايضها بالسماح لها بالسفر مقابل الصمت عن ملابسات دور الدبيبة ذاته؟
الخلاصة:
مع قناعتي بما ذكرت أعلاه، لكني بالمقابل أعتقد بان جناحا ليس هينا داخل الحركة الدينية السياسية بخاصة حركة الإخوان المسلمين العربية يرفض كل ما تبناه الجناح الذي يعلي من شان مصلحة التنظيم الضيقة على حساب مصلحة الأمة بشكل عام، بل ويعمل على تعزيز خط المقاومة بمقدار ما تتوفر له وسائل الدعم، لكن ذلك يستوجب الفرز داخل حركة الإخوان، وتحديد المواقف بشكل واضح من الكيان الصهيوني، وإلا فان الحركة الدينية العربية كلها وبخاصة الأخوان المسلمين ستنتهي حيث انتهت «نظرية ملك ملوك إفريقيا»..
أما سؤال المستقبل الآن فهو: أين ستكون موجة التطبيع القادمة؟
طبقا لردات الفعل الخجولة والملتبسة، فإنني اعتقد أن «كردستان العراق» قد يكون مرشح للتطبيع وبشكل تدريجي وبسيناريو ملتبس وبترويض مدروس للجماهير العربية، بخاصة أن بذور التطبيع والمؤتمرات السابقة في إقليم كردستان تشي بالمستقبل.
ربما.