مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: ما بعد الطوفان

مع الإعلان عن توقيع الاتفاق لما تم وصفه «التهدئة المستدامة» في قطاع غزة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، واعتماد اللغة الإنجليزية مرجعية لتأويل وتفسير المصطلحات والمعاني، لا بد من الحذر المطلق وعدم بناء أوهام مستقبلية، دون انكار ان الصمود الذي أنجزته المقاومة وبمساندة مُكلفة من محورها (في لبنان واليمن والعراق) يشكل قيمة استراتيجية هائلة، فبعض الصحف الغربية والآسيوية تساءلت بدهشة واضحة: كيف لمقاتلين أقل عددا ومحاصرين من كل الجهات منذ 17 سنة، يواجهون جيشا احتل اكثر من 70 الف كيلومتر في ستة أيام في 1967، بينما فشل في السيطرة على 365 كيلو متر في خمسة عشر شهرا، وبمساندة أمريكية غربية ؟ وبقيت المقاومة تقاتل حتى آخر يوم بل ان معدل الخسائر للقوات الإسرائيلية في أيام المواجهة الأخيرة ارتفع عن معدله بعد أيام الطوفان الأولى؟.

لكن النظرة المستقبلية تستوجب التنبه للاحتمالات التالية:

1- قضية الالتزام:

إن احتمالات الالتزام الإسرائيلي بالاتفاق- بالتفسير الفلسطيني لبنوده- هو احتمال يتراوح بين الضعيف والضعيف جدا، فالسوابق التاريخية تدل على أن إسرائيل لا تلتزم باي اتفاق، ولديها القدرة على تأويل النصوص وانتهاز الفرص السانحة دون حدود، خاصة ان تعبير الهدوء المستدام يفتح مجالا لتأويله كما يشاء نيتنياهو وفريقه، فالتفسير الفلسطيني باللغة الإنجليزية لهذا المصطلح يعني

«Permanent cessation of military and Hostile Operations»

أي «الوقف الدائم للعمليات العسكرية والعدائية»، بينما تفصل إسرائيل بين المرحلة الأولى والثانية بكيفية تعني ان استدامة الهدوء مرهون «بعدم قيام المقاومة باستعادة تسليح نفسها وتعزيز قدراتها العسكرية او تشكيل تهديد مستقبلي لإسرائيل»، وتفسر إسرائيل ذلك على انه خرق من المقاومة لاستدامة الهدوء.

2- الأطراف الضامنة:

بعيدا عن الورم الدبلوماسي لدى كل من المفاوض المصري والقطري ومحاولة الإيحاء بدور «الضامن» فان الضامن الوحيد هو الولايات المتحدة،

وهي طرف -وبخاصة مع ترامب- يستوجب جعل الحذر والشك هو القاعدة للتفكير في استراتيجيته، ناهيك عن يقظة المقاومة واستعدادها،

لذا فان احتمالات حماية الخرق الإسرائيلي للاتفاق لا يلجمه الا الطرف الأمريكي إذا أراد،

أما الطرفين العربيين فلم يتمكنا من إنجاز أي شيء سوى توفير المقر للمفاوضات والقيام بدور ساعي البريد،

بل إن دورها هو تنفيذ لبرنامج متفق عليه مع الإدارة الامريكية.، فاحد الطرفين العربيين يتوسل العون المالي من هيئات بريتن وودز

حيث الثقل الأمريكي في قراراتها، والآخر يضم اكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط.

نعتقد أن على المقاومة أن تعمل على جعل رقابة تنفيذ الاتفاق مرتبط بلجان أممية فيها ممثل عن الأمين العام للأمم المتحدة وروسيا والصين

وبعض الدول العربية مثل اليمن والجزائر ودول افريقية مثل جنوب افريقيا،

وأن تكون هذه اللجنة على غرار اللجنة الرباعية المعروفة لضمان جهة غير منحازة للطرف الإسرائيلي والامريكي.

3- معركة الاعمار:

رغم التباين الكبير للغاية في تقديرات المبالغ المالية والمواد المطلوبة للاعمار، فإن الابتزاز للمقاومة سيكون هو محور هذا الموضوع،

وستكون الاستراتيجية الإسرائيلية والأمريكية وبعض الغربية والعربية هو نزع التنازلات من المقاومة التي لم تتمكن معركة السلاح من انتزاعها،

وفي تقديري ان هذه التنازلات ستدور حول ربط كل مبلغ مالي بشروط قاسية مثل:

أ‌- افراغ أي دور تنظيمي او اداري او سياسي للمقاومة في إدارة القطاع او إدارة موارد الاعمار،

وقد تسعى الأطراف التي ستقدم المساعدات الى إيجاد سلطة «لا لون لها ولا وزن»

أو العمل على تسهيل تسلل سلطة التنسيق الأمني الى دوائر القرار في القطاع،

أو البحث في إدارة مؤقتة ترعاها دول عربية وبمشاركة دولية.

ب‌- قد تعمل إسرائيل على دفع المتبرعين إلى تشكيل لجنة عربية دولية للإشراف على عمليات الاعمار ودخول المواد وتحت رقابة صارمة للمواد التي سيسمح بإدخالها،

مع استبعاد أي مواد -بخاصة في المراحل الأولى- التي يمكن أن تستشعر إسرائيل بأنها مواد مزدوجة الاستخدام

(كما جرى في ملاحق اتفاق أوسلو او ملاحق الدعم للعراق بعد الغزو الأمريكي)

ج- قد يتم ربط المساعدات بهيئات لا صلة لها بالأمم المتحدة وبخاصة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين،

وربما يشترط ترامب حل الوكالة لا سيما أنه كان أول رئيس أمريكي يوقف المساعدات الأمريكية للوكالة.

د- وقد يتم مطالبة المقاومة بالإعلان الصريح عن الاعتراف بإسرائيل (وهو ما قد يفتح شقاقا بين التنظيمات الرئيسية في المقاومة)،

أو نزع الأسلحة واشتراط اقتصار حمل السلاح على شرطة التنسيق الأمني التابعين لسلطة التنسيق الأمني.

مطالبة المقاومة بوقف كافة النشاطات

4- ثمة احتمال أن تتم مطالبة المقاومة بوقف كافة النشاطات في الضفة الغربية، وقد تتوسع إسرائيل في تفسير الاتفاق بانه يشمل الضفة الغربية

وبالتالي تحميل المقاومة مسؤولية العمليات في الضفة الغربية واعتبارها خرقا لاتفاق «التهدئة المستدامة»

مما يسمح لإسرائيل العودة للقتال في غزة بعد أن تكون تحررت من مأزق الرهائن.

5- ستعمل إسرائيل على الضغط باتجاه توسيع دائرة التطبيع العربي بوعود كالتي أطلقتها في كل المراحل ولم تلتزم بها،

لاسيما وهي تدرك اللهفة الرسمية العربية على طي ملف القضية الفلسطينية.

6- ثمة احتمال قد يكون ملتبسا بعض الشيء، الا وهو احتمالات وقوع احداث على الحدود اللبنانية،

والعمل الإسرائيلي على تأزيم الموقف إلى حد يسمح لها بجر دائرة قطاع غزة إلى هذا الالتباس.

ذلك يعني أن ما نبهت له في أول أيام الطوفان أصبح واقعا أمامنا، ويجب على المقاومة أن تجمع بين الصمود والحذر والعقلانية الشديدة،

وتجنب أية انفعالات رغم أنهم «قابضون على الجمر»،

وعليهم التوجه إلى دول قد تساهم في الدعم بشروط تخلو من الابتزاز السياسي أو تقف عند حدود لا تؤدي لتغيير المشهد تغييرا استراتيجيا،

مع التركيز على هيئات المجتمع المدني في الدول الإسلامية بخاصة القادرة على تقديم الدعم،

دون إغفال القوى التي ساندت المقاومة أو لم تحرض سرا أو علانية على ذبح المقاومة.. أنها معركة لا تقل ضراوة عن معركة السلاح..

ربما.

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights