مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: مريض الشرق الأوسط

شكلت مصر في فترات تاريخية عديدة ومتباعدة مركز الثقل في تفاعلات الشرق الأوسط بخاصة في جانبه العربي، وعرف موقع مصر الدولي تذبذبا حادا بين الصعود والهبوط عبر المراحل التاريخية، ولكن الدور الإقليمي ليس دورا تلعبه الدولة بمعزل عن مكونات بنيتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، وهو ما يعني ان تقييم الدور الراهن والمستقبلي لدولة ما في الفضاء الدولي أو الإقليمي أو حتى الإقليمي الفرعي لا يجوز أن يتم بعيدا عن قياس مؤشرات المكانة الدولية للدولة.

واستنادا إلى 32 مؤسسة بحثية، والمقارنة بين نتائج القياس فيها لعشر مؤشرات مركزية، تبين لنا أن مرتبة (Ranking) مصر بين 193 دولة الأعضاء في الأمم المتحدة في المؤشرات العشرة هو على النحو التالي (2024):

المؤشر ترتيب مصر
الاستقرار السياسي 159
الديمقراطية 128
الفساد 130
الدخل الفردي 136
الانفاق / البحث العلمي 38
نصيب الفرد من الديون 144
الجريمة الاجتماعية 92
الانفاق العسكري 45
معدل الزيادة السكانية 132
الرفاه العام 121
معدل المرتبة العالمية ما بين 112و 113

ومن الواضح أن المؤشرات العشرة (بمؤشراتها الفرعية) تغطي تقريبا كافة جوانب الحياة، فإذا اضفنا لذلك ان مصر تقع ضمن المنطقة الأسوأ بين أقاليم العالم التسعة، تزداد الصورة قتامة، لان معطيات الواقع الإقليمي ستؤثر على مصر بشكل لا لبس فيه، وتتحول مصر الى رجل الشرق الأوسط المريض على غرار النموذج العثماني عندما أطلق القيصر الروسي نيكولاي الأول على الدولة العثمانية «الرجل المريض». (Sick man of Europe).

ان تنامي الدور الإسرائيلي والتركي والإيراني، و«اتساع» قاعدة الاختراق الخارجي للمنطقة العربية هو نتيجة منطقية عن غياب «الدولة العربية المركز»، وازعم ان الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الأوروبية بخاصة بريطانيا تدرك تماما ان افضل طريقة للتحكم بالمنطقة هي منعها من بلورة «الدولة المركز»، والدلائل على دور الدولة المركز كثيرة تاريخيا، وفي وقتنا المعاصر يكفي التمعن في ان الخلل في الاتحاد السوفييتي انتج تفككا تاما للكتلة الاشتراكية وتفكك حلف وارسو بل وتحول بعض دوله الى خصم عنيد لروسيا، وها هي سياسات الولايات المتحدة في عهد ترامب تهز أسس الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لأنها هي الدولة المركز للمنظومة الغربية، وهو ما يذكرنا بمنظور الأوز الطائر(Flying Geese Paradigm) الذي صاغه المفكر الياباني اكاماتسو كانيمي (Akamatsu Kaname) وحدد فيه كيفية تطور النظم الإقليمية من خلال دور الدولة المركز في الإقليم.

ان الإقليم العربي يتحرك دون مركز، ودون اية مرجعية، وهو ينهار بشكل متسارع، ورغم بعض بذور المقاومة، ألا أن السمة الأساسية لهذه المقاومة هي انها ذات طبيعة «عسكرية دينية» وليست ذات طبيعة تقنية واقتصادية واجتماعية، وهو ما يجعل منها مقاومة «عرجاء»، ثم انها بلا مركز عربي.

ويزداد المشهد قتامة في أن النظم الإقليمية الفرعية العربية لا تقل خوارا عن النظام الإقليمي العام، فرغم دبلوماسية «بوس اللحى» في لقاءات دول مجلس التعاون الخليجي فان «البغض الدفين والتنافس شبه العلني» هو المسيطر، وكان الموقف الخليجي والمصري من قطر في فترة قريبة اكثر من واضح، ثم التباين بين دول الخليج في الموقف من العلاقات مع سوريا وايران والمقاومة الفلسطينية، والتنافس على الود الغربي، ومن يتابع الاعلام الخليجي يتلمس الفرق بين تغطية الاعلام التابع لقطر والسعودية والامارات في الصراع السوداني الدامي والصراع في غزة…، وفي المغرب العربي فان النار تحت الرماد بين المغرب والجزائر، وفي الهلال الخصيب «كل يغني على ليلاه».

حتى إسرائيل ذاتها تراجع مركزها الدولي في مؤشر الاستقرار السياسي ب 36 مرتبة( من 137 إلى 173)، واحد ميكانيزمات تحسين هذا المركز هو من خلال تحقيق إنجازات إسرائيلية في الإقليم العربي، ويكفي الإشارة إلى أن بعض الدول العربية قطعت علاقاتها مع بعضها بسبب خلاف في ملعب كرة القدم أو لأن اعلام إحدى الدول نقل خبرا ما عن دولة عربية أخرى، وكثيرا ما كانت أسباب قطع العلاقات تافهة، لكن مقتل وجرح قرابة 200 الف فلسطيني وتدمير 365 كيلومتر مربع اقتصاديا وبشريا ومعماريا وتجويع اكثر من 2 مليون نسمة لم يدفع أي من دول التطبيع الى قطع العلاقات مع إسرائيل أو التهديد بذلك.

نعم… {لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.. ولعل الشاعر الجاهلي «الأفوه الأودي» كان أكثر وعيا حين قال:

لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم: وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا

وَالبَيتُ لا يُبتَنى إِلّا لَهُ عَمَدٌ: وَلا عِمادَ إِذا لَم تُرسَ أَوتادُ

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights