د. وليد عبد الحي يكتب: مصر بين أولوية النظام السياسي وأولوية الدولة والمجتمع
منذ أن بدأت عملية طوفان الاقصى في السابع من اكتوبر الماضي، كررتُ وفي أكثر من مقال وفي مواقع عدة أن إسرائيل لم تكن تاريخيا مرتبكة كما هي عليه الآن سواء في قرارها، أو في حدة تنازع بيروقراطيات هيئات اتخاذ القرار السياسي فيها، بل وتفقد تدريجيا صورتها التي صنعتها لذاتها في الذهن العالمي لتجد نفسها متهمة حاليا أمام ثلاث محاكم (العدل الدولية بدعوى رفعتها جنوب أفريقيا بكل رمزيتها، وأمام محكمة الجنايات الدولية بدعوى رفعتها المكسيك والتشيلي وأمام محاكم سويسرية ضد رئيس إسرائيل بدعوى رفعتها هيئات المجتمع المدني السويسري)، ناهيك عن اتخاذها موقفا دفاعيا عن تصرفاتها الهمجية أمام أقرب حلفائها، وأمام رأي عام دولي بدأ يتشكك بشكل واسع ومتسارع في الرواية الإسرائيلية كلها.
وازداد الإمر تعقيدا نتيجة تعثرها في تحقيق أهدافها -حتى الآن على الأقل-، فلا هي دمرت المقاومة ولا نزعت سلاحها ولا استعادت أية رهينة، بل أصبحت الضفة الغربية شوكة إضافية في الحلق الصهيوني، ناهيك عن النهش الفاعل والمتواصل والمتصاعد من أطراف محور المقاومة.
لكن الضرورة تقتضي الحذر، فالمعركة لم تنته بعد، بل لعلها دخلت في مستوى أكثر تعقيدا، وتكشف التوجهات الإسرائيلية أن نيتنياهو يُصر على لاءات ثلاث:
لا مقاومة في غزة،
لا دولة فلسطينية،
لا تبادل رهائن على قاعدة الكل مقابل الكل،
وعلى الأرجح فإن الاستراتيجية الإسرائيلية القادمة طبقا لما تتداوله النخبة الإسرائيلية هو تبني استراتيجية تقوم على الأسس التالية:
1- دعوة الولايات المتحدة للضغط على الدول العربية وبخاصة قطر لوقف التمويل «المدني» للمقاومة وبالذات حماس ومنع قياداتها من المغادرة، إلى جانب الضغط عليها لتعديل بعض جوانب السياسة الاعلامية لقناة الجزيرة.
2- زيادة الدور المصري في الوساطة مع المقاومة بخاصة في موضوع الرهائن من ناحية وزيادة التنسيق لضبط معبر رفح وممر فيلادلفيا من ناحية ثانية.
3- تكثيف مضمون الإعلام الإسرائيلي باتجاه الجمهور الإسرائيلي والتركيز على «الحاجة للوقت والصبر» لإنجاز الأهداف.
4- العمل على كبح كل محاولات تحقيق وحدة وطنية فلسطينية يكون للمقاومة أي دور فيها.
5- منع عودة كبيرة للنازحين من شمال قطاع غزة إلا في حدود «حيز محدد» وخاضع للرقابة لمنع تسلل عناصر المقاومة للعودة وإعادة بناء خلاياها في الشمال.
6- طرح إنشاء نظام وصاية دولي بقيادة الولايات المتحدة، وبمشاركة الدول الإقليمية الرئيسية وتحديدا مصر والسعودية والإمارات، ويعهد لهذه الوصاية إنشاء حكومة تكنوقراط مع توسيع دورها تدريجيا للوصول إلى السيطرة التامة على غزة خلال خمس سنوات من ناحية ويكون ذلك مقدمة لإدارة محلية فلسطينية تضم الضفة الغربية وغزة من ناحية ثانية.
ذلك يعني أن هناك واقع فيه سيولة كبيرة لم تستطع إسرائيل حتى الآن ضبطها لصالحها، ولكن هناك تخطيط إسرائيلي ما زال التشبث يه هو السمة الأساسية لحكومة اليمين الصهيوني، ويبدو أن الضغط على المدنيين الفلسطينيين بالمذابح والتدمير والتجويع والاعتقال والتهجير هي الأداة الأكثر نفعا من زاوية المنظور الإسرائيلي، وهي كعب أخيل -كما سبق ووصفناها في مقال سابق- من منظور المقاومة، فالعبء المدني يُرهق وبشكل غير طبيعي كاهل المقاومة التي تواجه محور شر واسع ومتخم بالقدرات.
وفي تقديري، أن مفتاح الترجيح بالفوز لأي من طرفي الصراع الحالي هو الموقف المصري من معبر رفح (الذي تم توقيع اتفاقياته مع إسرائيل عام ٢٠٠٥ وينتهي الاتفاق حسب نصه عام ٢٠٠٦)، فاستمرار سياسة الفتح الشكلي للمعبر استجابة للضغط الأمريكي والإسرائيلي بل وبعض دول «الوصاية المقترحة من طرف إسرائيل» يضمن للنظام أمنه،
لكنه ينطوي على ضرر استراتيجي للدولة المصرية والمجتمع المصري على المدى المتوسط والبعيد، فمصر حاليا مطوقة بالنيران في السودان وليبيا والبحر الأحمر وغزة، ناهيك عن تراجع سبق وقسناه لـ 352 مؤشرا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وتبين التراجع فيها بنسبة 64.6%،
مضافا لذلك كله تداعيات سد النهضة التي ستظهر لاحقا، وأن الربط في ذهن صانع القرار المصري بين المقاومة في غزة وبين «هواجسه وكراهيته للتيارات الدينية» (رغم أنه الاكثر استخداما للحلفان بالله في كل كبيرة وصغيرة في خطاباته) يكشف عن أولوية أمن النظام المستند للقوى ذاتها الأقرب للسياسة الإسرائيلية،
وهو ما يعني أن التضحية بأولوية المجتمع والدولة لصالح أمن النظام قد ينطوي على خطر استراتيجي عميق ستواجهه مصر مهما تم من توظيف لشعراء البلاط «الجمهوري» لنشر الغواية السياسية.
لذا أقول، إذا هُزمت غزة، فإن مصر هي المسئولة الأولى عن حرمان المقاومة من علاج «كعب أخيلها» وعن تعريض الأمن القومي المصري لتداعيات ذلك كله.